كتب: علي محمود
لا يَخفى على كلِّ عاقلٍ واعٍ أن ما قدَّره الله تعالى قد جَرى كما أراد سبحانه، وأن مسائلَ الخَلق والخُلُق والرِّزق والأجل لا تخفى على من تدبر. يتناول هذا المقال مسألة الثواب على الخُلُق في ضوء ما ورد في النص النبوي وفهم العلماء، ويبرز موقفَهم من قضية: الثواب على الخُلُق إن كان غريزة، مستندًا إلى النصوص الشرعية ونظرة العلماء كما وردت في النص الأصلي. كلمة المفتاح في هذا المقال هي “الثواب على الخُلُق” وترد مبكرًا في العرض لضمان وضوح الموضوع وتركيزه.
النص النبوي وترتيب القضايا الأربعة
ورد عن النبي ﷺ في صحيح الجامع عن ابن مسعود رضي الله عنه: “فُرِغَ إلى ابنِ آدمَ من أربعٍ: الخلْقِ، و الخُلُقِ ، و الرِّزقِ ، والأجَلِ.” يوضح هذا الحديث أن الله قد بيَّن أربع قضايا رئيسية فرغ فيها للإنسان: الخلق الذي يشمل الصورة والهيئة، الخُلُق الذي يتعلق بالأخلاق والطباع، الرزق بمقاسه من غنى وفقر، والأجل الذي هو مدة البقاء في الدنيا. هذا الترتيب النبوي وضع أصلًا لفهم الإنسان لعلاقته بمقدَّرات الخالق في جانب الهيئة والطباع والرزق والزمان، وهو ما يستدعي التأمل في مراتب المسؤولية والجزاء.
معنى الخلق والخُلُق في الحديث
اشتمل نص الحديث على تمييز بين “الخَلْق” و”الخُلُق”، فالمقصود بالخلق هنا هو الصورة التي خلق الله الإنسان عليها من كاملٍ وناقصٍ، وحسنٍ وقبيحٍ، فيما الخلق الثاني وهو “الخُلُق” يتعلق بالأخلاق والطبائع التي قد تختلف بين الناس. هذا التمييز ضروري لفهم القضية المطروحة: هل الخُلُق من قبيل ما خُلق الإنسان عليه من غريزة أم هو من كسبه؟ النص النبوي يذكر الأمرين منفصلين، ما يفتح الباب لتفصيل القول في حكم الثواب والعقاب على الخُلُق.
موقف العلماء من مسألة الثواب على الخُلُق
أجمع العلماء على أن الثواب والعقاب إنما يكونان مرتكزين على الطاعة والمعصية، لا على ما خُلِق في العبد بصورةٍ لا دخل له فيها. وقد استدلوا بأن القول بأن الثواب على الخُلُق إن كان غريزة يتنافى مع مسؤولية الإنسان التي نصَّت عليها النصوص، فالثواب يُلصق بالطاعة التي يقصدها العبد ويعمل بها، والعقاب بما يقترفه من معصية. بهذا المعنى، يعتبر العلماء أن أخلاق العبد، حسنها وسيئها، إنما تكون من كسبه واختياره في معظمها، فيُحمد على الجميل منها ويُثاب على ما كان طاعةً، ويُعاقب على ما كان معصيةً.
لماذا قال العلماء إن الخُلُق كسبٌ وليس قضاءً مجردًا؟
يذكر العلماء أن لو كان الخُلُق مجرد قضاءٍ إلهي لا دخل للعبد فيه ولا أثر لاختياره، لَبطَلَ الأمران بالتحريم والتكريم؛ فلم يكن لينتفي الأمران إنما يُثبَّت أن الأخلاق تتشكل بسير العبد في حياته، بتربيته واختياراته وسلوكه، وبما يسعى إليه من إصلاحٍ أو تقصير. ومن هنا يأتي القول بأن الثواب على الخُلُق إن كان غريزة لا يصحّ، لأن الأخلاق التي تُحاسب عليها النفس هي نتيجة فعلٍ واختيارٍ، لا مجرد صورة فطرية محضة لا قدرة للعبد على تغييرها.
الاختيار الإنساني وعلاقة ذلك بالثواب على الخُلُق
يُبرز النص أن الله تعالى قد كتب ما يكون في علمه السابق، لكن في الوقت نفسه ترك للإنسان ساحة الاختيار والكسب والإصلاح ليُحاسَب على ما سعى إليه بجهده. يتضح ذلك من قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9-10]. الآية تُظهر أن النفس مَسؤولة عن تزكيتها أو دسها، وأن النجاح والخابر يرتبطان بعمل النفس نفسه لا بمجرّد قضاء سابق خارج عن إرادة الإنسان. بناءً على هذا، يصبح موضوع “الثواب على الخُلُق” مرتبطًا بحجم مشاركة الإنسان في تكوين أخلاقه وحرصه على العمل الصالح والتقوى.
تفسير العلاقة بين علم الله المسبق والاختيار
يرى العلماء أنَّ تقدير الله وعلمه السابق بما سيكون عليه الناس لا يعارض تركَ الله للإنسان مجالَ الاختيار. فالعلم الإلهي لا يلزم الجبر على الخلق أو الخُلُق، وإنما هو علم سابق يطالع ما سيختاره العبد، بينما يبقى الجزاء مقرونًا بخيار العبد وحُسن سلوكه أو سيئه. ولذلك حين نقول “الثواب على الخُلُق” إن كان غريزة، يعترض العلماء بأن المقصود بالخُلُق المحاسَب عليه هو ما اكتسبه العبد من أعماله وسلوكه، وهذا موافق لنصوص الشريعة التي تربط الجزاء بمدلول الفعل والنية والاختيار.
دور التربية والبيئة في فهم الثواب على الخُلُق
من المعلوم أن التربية والبيئة تؤثران في شخصية الإنسان، وتلك عناصر يذكرها العلماء ضمن أسباب تكوين الخلق والخُلُق. لكنهم في الوقت نفسه ما زالوا يؤكدون أن الاعتماد على هذه العوامل لا يبرئ العبد من مسؤولية الكسب والاختيار؛ فحتى لو وُلد الإنسان بميول طبيعية أو تأثر ببيئةٍ معينة، يظل أمامه طريق الوصول إلى التزكية أو السقوط، وما يصلحه أو يفسده هو سعيه وإرادته. بهذا تتعلقة قضية “الثواب على الخُلُق” بمدى استجابة العبد لواجبه في الإصلاح والتقويم الذاتي، لا بأنها مسألة محسومة سلفًا بغض النظر عن سلوكه.
النصوص التي استند إليها المقال وموقف النشر
اعتمد هذا العرض على الحديث النبوي المذكور وعن فهم العلماء المشار إليه في النص الأصلي، مع استشهاد بآية من القرآن الكريم لتبيان قاعدة المساءلة التي تربط بين اختيار الإنسان ونتيجة عمله. يمكنك مشاركة الخبر على صفحات التواصل. مدير تحرير الموقع: نبيل الشيمى. جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة دار التحرير للطبع والنشر — الجمهورية أون لاين. ويحظر نشر أو توزيع أي مادة دون إذن مسبق من مؤسسة دار التحرير للطبع والنشر © 2020.
يمكنك قراءة المزيد في المصدر.
لمزيد من التفاصيل اضغط هنا.















































































































