كتب: سيد محمد
اتحاد الأديان ليس مجرد شعار، بل إطار عملي يحول تقاطعات الدين إلى جسور تعايش وسلام دائم. في سياق حديثه المعهود، أكد مفتى جمهورية مصر العربية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، أن الأديان في جوهرها لا تخلق فروقاً وإنما تجمع وتوحد الإنسان على قيم العدل والرحمة والصدق. وتلوح في قوله إشارات صريحة إلى أن هذا الاتحاد ليس وليد لحظة بل هو خيار حضاري يواجه تحديات العصر من دون أن يفقد أهدافه السامية. وفي هذا السياق، أشار إلى أن الدعوة إلى الاتحاد ليست ترفاً فكرياً، بل مسار عملي يستلهم من مبادئ الدين وقيم الإنسان، ويجب أن يكون جزءاً من حضور المؤسات الدينية في المحافل الدولية. كما أشار إلى أن الدعوة إلى اتحاد الأديان تطلب مواجهة موجات التشويه والافتراء التي تلحق الضر بالصورة الصحيحة لإسلام، وتؤدي إلى تزايد الإسلاموفوبيا وخطابات الكراهية والعنف، ما يستدعي موقفاً علمياً راسخاً يعز فهم الدين ويجلو زيف الادعاءات. وفي هذا المسار، شد على ضرورة حضور المؤسات الدينية الرسمية في المؤتمرات العالمية والمنتديات الدولية لتقديم صورة الإسلام الصحيحة والموازنة بين الحقيقة والزيف، مع التركيز على ثلاثية الأس: الحوار الحقي، والبحث العلمي، والتفعيل الواقعي. ولفت إلى أن مسار اتحاد الأديان يحتاج إلى عمل مؤسي جماعي ينسجم مع مقاصد الشرع وقيم الإنسانية.
التحديات الفكرية الحديثة أمام الإسلام والتصدي لها
بينما يواجه العالم تحديات فكرية جسيمة، تنوع موجاتها بين الفكر الاستشراقي المتعصب والفكر الاديني الذي يميل إلى الإلحاد والطعن في الوحي، وصولاً إلى الفكر المتطرف الذي أنتج جماعات العنف والإرهاب، فإن الصورة التي ترسمها هذه الظواهر تؤس لظواهر سلبية مؤلمة. من أبرز تجلياتها تصاعد موجات الإسلاموفوبيا، وخطابات الكراهية والعنف العنصري، ما يهد قيم العيش المشترك والأمن الإنساني العالمي. في سياق ذلك، يرى المفتي أن مواجهة هذه التحديات تستلزم موقفاً علمياً راسخاً يقوم على بيان الحقائق وكشف الزيف، وتصحيح المفاهيم المغلوطة عن الإسلام في المحافل الدولية. إذ يرى أن المؤسات الدينية الرسمية مطالبة بأن تكون حاضرة بقوة في المؤتمرات والمنتديات العالمية، لتقديم الصورة الصحيحة عن الإسلام ومواجهة التهم الباطلة التي تُلصق بالأمة. هذا المنهج يقوم على مجموعة أس فكرية وعلمية، منها ترسيخ ثقافة الحوار الديني والثقافي بوصفها الأساس الحقي لبناء الحضارات الإنسانية. كما أكد أن الحوار ليس رفاهيةً بل ضرورة وجودية لضمان بقاء الإنسانية وتحقيق السلام العالمي، وأن تعزيز قيم التفاهم والتعايش هو الطريق لتصحيح الصورة المشوَّهة عن الأديان أمام العالم.
اتحاد الأديان كإطار لحوار والتعايش
يؤكد المفتي أن الحوار بواعثه الروحية والأخلاقية هو أداة الأم في بناء النظم الاجتماعية والتفاهم بين الشعوب. فاله سبحانه وتعالى خلق الكون وجعل من الحوار وسيلةً لعمارة والتفاهم بين الناس، وإن الواقع المعاصر يشهد تراجعاً في مارسة الحوار النزيه القائم على البحث عن الحق، حيث صار في بعض الأحيان حواراً محصوراً بفئة بعينها وتوجهاتها. وبدلاً من ذلك، يرى أن التاريخ أثبت أن الحوار الصحيح هو البيئة العلمية التي تنضج فيها العقول وتلتقي فيها الرؤى لوصول إلى الصواب. كما أكد أن الأديان في جوهرها ليست سباً لفرقة، بل قوة لوحدة الإنسانية لأنها تلتقي جميعاً على قيم العدل والرحمة والصدق. وهو يرى أن الحوار ليس مجرد ترف فكري، بل ضرورة وجودية من أجل المحافظة على الإنسانية وتحقيق السلام العالمي. وتعد التعريفات الصحيحة لحوار هي السبيل لضمان رسالة الإسلام في قضايا التعايش وتلافي حملات التشويه والتنمير.
التعارف الحضاري أساس لتعزيز اتحاد الأديان
أوضح المفتي أن التعارف الإنساني والحضاري يشكل أحد أهم منابع الدين وخلاصاته. فالتعارف ليس ترفاً حضارياً، بل ضرورة عملية تسمح بتبادل الخبرات وتواصل الحضارات بثقة واحترام. وفي هذا السياق، أشار إلى أن وثائق القِيم الإنسانية التي تعكس تعارف الشعوب تقاطع مبادئ الإسلام التي تدعو إلى احترام التنوع الثقافي والديني. كما أشار إلى أن فكرة التعارف الحضاري يجب أن تكون محوراً أساسياً في فكر المؤسات الدينية المسلمة والمسيحية، وأن تُترجم إلى خطوات عملية تقطع دابر الصراعات وتُسهم في بناء السلام العالمي. وتطرق إلى أن تعارفاً حقياً يقوم على التواضع والاحترام المتبادل، وهو ما يبرز في الرحمة التي نطق بها الرسول محمد صلى اله عليه وسلم، وهذا ما يعز فكرة أن التعارف لا يقتصر على التبادل النظري بل يتطلب ترجمة فعلية في العلاقات بين الشعوب والتعاملات اليومية. وفي هذا الإطار، يشد على أن التعارف الحضاري يظل الطريق الأوضح لتجاوز خطاب التفريق والتعصب، وهو ما يحث على استحضار مقاصد الشرع في عمارت الأرض وخدمة الإنسان.
دور المرأة في الإسلام: مساواة وتكريم ضمن إطار اتحاد الأديان
استدلاً بحديث النبي محمد صلى اله عليه وسلم حول مكانة المرأة، يؤكد المفتي أن قضية المرأة كانت ولا تزال في صلب الاهتمام الإسلامي، وتاريخ الإسلام زاخر بنماذج تثبت التقدير العميق لدور المرأة في المجتمع كأم وبنت وزوجة وعالمة ومربية لأجيال. وفي حديثه الشريف يحضر قوله: «استوصوا بالنساء خيراً»، وهو توجيه يعكس تكريم الإسلام لمرأة ويؤكد أنها شريكة في البناء والعطاء فـ«النساء شقائق الرجال» كما قال النبي صلى اله عليه وسلم. كما يوضح أن الشريعة الإسلامية سبقت الشرائع في تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة في العديد من المجالات، مع وجود بعض الاختلافات الناتجة عن الاختصات الطبيعية والوظيفة الاجتماعية. ويؤكد المفتي أن القوامة في الإسلام ليست استعباداً بل تكليفاً بمسؤولية ورعاية تُحفظ كرامة المرأة وتضمن لها إنسانيتها. ويرى أن أي فكر يحاول اختزال هذه المساواة أو يحصرها في صورة تقليدية هو فكر دخيل على الإسلام. لذا، يدعو إلى انتشار المعنى الراشد بين الناس وتبنّي صورة الإسلام الحقية في العالم، بما يعز من اتحاد الأديان وتعايشها.
خطابات الكراهية والإسلاموفوبيا: الواقع والتحدي
يشير المفتي إلى أن الغلو والتطرف في فهم النصوص الدينية من أخطر الآفات التي أصابت الفكر المعاصر. فبعض الجماعات خرجت عن الإجماع وتبنت العنف والتكفير والإرهاب، وهو أمر يفسره بأنه نتيجة لسوء الفهم والابتعاد عن مقاصد الشريعة السمحاء. كما يلفت إلى أن خطاب الكراهية ليس محصوراً في داخل المجتمعات بل يمتد إلى خارجها عبر حملات عدائية من بعض التيارات اليمينية والأصولية في الغرب ودعمها أحياناً مؤسات استشراقية معادية. وهذه الحملات تيح صورة مشوهة عن المسلمين وتؤدي إلى تفشي ظاهرة الإسلاموفوبيا وارتفاع معدلات العنف والجرائم ضد المسلمين حول العالم. ويؤكد أن الإسلام بريء من فكر الكراهية والإقصاء، وأن رسالته في جوهرها رسالة سلام ورحمة وتعارف بين البشر. يرى أن الحل لا يكمن في مقاطعة الحوار، بل في تعزيز الحوار الحضاري واستنهاض الأس العلمية والتربوية والتقنية والعبادية والثقافية لمواجهة التطرف وتقديم الإسلام بصورة كاملة وشاملة.
المحاور المتعدة لبناء اتحاد الأديان وتفعيلها على الأرض
يطرح المفتي منظومة محاور متكاملة لمواجهة ظاهرة الإسلاموفوبيا وتحقيق اتحاد الأديان في العالم. المحور العلمي يقتضي عرضاً موضوعياً لإسلام والرد على الشبهات المثارة حوله، مع الاعتماد على منهج علمي يحترم الحقائق ويحفظ التوازن بين النصوص ومقاصد الدين. المحور التقني يدعو إلى توظيف وسائل الاتصال الحديثة ومخاطبة العالم بلغته المعاصرة، بما يجعل الرسالة الإسلامية سهلة الاستيعاب واضحة في سياق الثقافة الرقمية. المحور التربوي يعنى بتربية الأسرة وتربية النشء على قيم التعارف والتعايش واحترام الاختلاف. المحور التعبدي يقع على عاتق المؤسات الدينية والمساجد في تعزيز المفاهيم الصحيحة وشرح المعاني الإسلامية في سياق العبادة والعبادات. المحور الثقافي يسمح لوزارات والهيئات الثقافية والتعليمية بمشاركة أوسع في عرض الصورة الصحيحة لإسلام وترويج قيم السلام والعدالة. ويؤكد أن التكامل بين هذه المحاور هو السبيل الأمثل لقضاء على ظاهرة الإسلاموفوبيا، وتصحيح الصورة الذهنية عن الإسلام في المحافل الدولية، وتحقيق هدف اتحاد الأديان عبر العيش المشترك والتعايش السلمي.
حضوره وتوثيق حضور الندوة: نموذجاً عملياً لـاتحاد الأديان
تعكس ندوة كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، بعنوان “منهجية عرض صحيح الإسلام في المحافل الدولية – تجربة ذاتية” صورةً حية لمبادئ التي يدعو إليها المفتي. شهدت الندوة حضور عد من كبار المسؤولين والعلماء، من بينهم الدكتور محمود حسين عميد الكلية، والدكتور حسن صلاح الصغير رئيس أكاديمية الأزهر الشريف لتدريب، والدكتور محمد الجندي الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، والدكتور عبدالفتاح العواري، عميد كلية أصول الدين الأسبق، والدكتور محمد مهنا، الأستاذ بجامعة الأزهر، والدكتور محمود الصاوي، وكيل كلية الدعوة الإسلامية الأسبق، إلى جانب عد كبير من أعضاء هيئة التدريس بجامعة الأزهر وطلابها. وتؤكد هذه الحضور على وجود حراك مؤسي يترجم مفهوم اتحاد الأديان إلى حراك بحثي وتطبيقي على الأرض، مع توجيه الجهود نحو تعزيز صورة الإسلام كدين رحمة وسلام وتعارف بين البشر.
اقتباسات ومراجع قرآنية وسنية توضّح المنطلقات
اعتمد المفتي في عرض تصوراته على مجموعة من النصوص والاحاديث التي تعز مفهوم اتحاد الأديان وتدحض صور الفرقة. فذكر في معرض حديثه قول اله تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمة لعالمين” لتبيان صلة الرسول صلى اله عليه وسلم بالرحمة الشاملة، كما أشار إلى قوله تعالى: “وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً” لتأكيد مقاصد الشريعة في جلب المصالح وتجنب المفاسد. كما استشهد بآيات تحث على التعارف والتقوى مثل: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اله أتقاكم”، وبحديث يروى عن النبي صلى اله عليه وسلم حول عدم التفاضل بالأنساب، ثم استشهد بإحدى أقواله حول أن الفضل لا يقاس بالأنساب ولا بالألوان ولا بالجنس، وإنما بالتقوى والعمل الصالح. كما أشار إلى مبدأ التعارف الإنساني الذي ينبني عليه الإسلام، مستدعياً آية “يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة”. وفي إطار السيرة النبوية، استشهد بضرب أم المؤمنين عائشة رضي اله عنها مثالاً على تطبيق العدل في الحدود، موضحاً أن التعريف الصحيح لإسلام يتأس على قيم العدالة والرحمة وكرامة الإنسان.
خلاصة المنهج: الصورة الكلية لإسلام كحالة اتحاد لا تفريق
أكّد المفتي أن الإسلام دين عدل ورحمة ومساواة وأخوة، وأنه جاء ليقيم الميزان بين الناس ويرسخ دعائم التعايش والسلام، ويبطُل أشكال التميز والتفريق باستهداف التقوى والعمل الصالح. وأشار إلى أن ما يريده العالم في هذه المرحلة هو استلهام هذه المعاني الراقية التي تسود المحبة والوئام وتكسر الحواجز وتزيل جدران الفرقة والانقسام. كما دعا إلى تعزيز التعارف الإنساني والحضاري بوصفه من أهم المبادئ الدينية والقيم الحضارية في الإسلام، مع الإشارة إلى أن التعارف ليس خياراً اختيارياً بل ضرورة واقعية تساهم في بناء عالم أكثر عدلاً وإنصافاً. ولفت إلى أن ظهور ظاهرة الإسلاموفوبيا في العصر الحديث يتصل بطبيعة المرحلة التي يغلب فيها بحث المصالح والمنافع، وأن بعض المؤسات العالمية تروج مفاهيم مادية وتغفل القيم الروحية التي تشكل جوهر الرسالة. وفي هذه المعالجات، أوضح أن الكراهية والتعصب لا يعكسان التدين الصحيح، بل يعكسان الانحراف والجهل، وأن رسالة الإسلام بريئة من كل فكر يدعو إلى العنف أو الإقصاء.
شهدت الندوة حضوراً واسعاً وتبادلـت خلالها صور من التفاعل الأكاديمي، كما أشار المفتي إلى أهمية تفعيل التبادل الحضاري والتعارف بين الشعوب كخطوات عملية نحو بناء عالم يسوده السلام وتحقيق مقاصد الشرع في عمارة الأرض وخدمة الإنسان. وفي هذا الاتجاه، أكد أن العالم بحاجة إلى تقديم الإسلام في صورته الكاملة التي تسع لإنسان بغض النظر عن دينه أو لونه أو ثقافته، وأن الدعوة إلى اله لا تكون إلا بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال تعالى: “ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”؛ فالإسلام في جوهره رسالة رحمة وعدل لا تعرف الإقصاء ولا العنف.
تذكير أخير بأن الدعوة إلى اتحاد الأديان لا تقتصر على الكلام النظري بل تشتغل على آليات تطبيقية حقية، وهو ما يدعو إلى تكامل المحاور العلمية والتقنية والتربوية والتعبدية والثقافية، وصولاً إلى بناء عالم أكثر عدلاً وإنسانية، قوامه التعاون والتواصل والتعارف.
يمكنك قراءة المزيد في المصدر.
لمزيد من التفاصيل اضغط هنا.














































































































