كتب: سيد محمد
في ندوة عقدها الفنان أشرف عبد الباقي ضمن فعاليات مهرجان VS-film، أطلق سلة من التوجيهات النقدية حول مهنة النقد السينمائي في زمنا الراهن، داعياً إلى إعادة النظر في المعاير التي يحكم بها النقاد الأعمال الفنية والدور الذي ينهض به النقد في تشكيل الوعي عند الجمهور. قال عبد الباقي صراحة إن النقد يجب أن يركّز على الفيلم، وأن يكون مسلّحاً بمعطيات فنية تقيس البناء والإخراج والإضاءة والأداء والقدرة التعبيرية لمخرج والمثلين، بعيداً عن الانشغال بتفاصيل شخصية قد لا ترتبط بجودة العمل الفني نفسه. وفي نبرة تأكيده، ألح على أن التقيم النقدي الحقي ينبغي أن يغوص في صلب العمل، لا في مقتطفات أو أقاويل قد تُبدّد قيمة الفيلم وتُضعف قدرته على التواصل مع المشاهدين.
وأضاف الفنان في سياق حديثه أن النقد كان في السابق أشد اتساعاً وشمولاً، حيث كان النقاد يتناولون العمل الفني من زوايا متعدة تغطي التحضير والتكوين والرسالة والجمالية والتقنيات، وهو ما كان يثمر تعلماً مستمراً لجماهير والمتفرجين. ولكنه أشار إلى تغيّر في بعض أساليب النقد حالياً، حيث تجد الكثير من التعليقات تركّز على تفاصيل سطحية، وتفاصيل شخصية أو أمور قد لا تكون معياراً فردياً لتقيم الفيلم. وذكّر بأن منطق النقد الموضوعي يجب أن يعالج إضاءات العمل والتقنيات الدارسة وجودة الإخراج والأداء التمثيلي وتفاصيل التكوين السينمائي، مؤكداً أن هذا هو المثال الذي يستفيد منه الجمهور كمتلقٍ لنص البصري والصوتي. وفي إطار ذلك، ذكر عبد الباقي مواقف من الواقع النقدي الحديث عبر استحضار أمثلة صريحة، قائلاً: “النقاد زمان كانوا بيدوا نقد لأي عمل وكنت بتابعه علشان أتعلم من نقدهم وكلامهم، ولكن دلوقتي تلاقي الناقد بيقولك الفيلم الفلاني أشرف وهو داخل الفيلم اتكعبل، وكان معاه مراته وبنته. أيوا فين نقد الفيلم؟! هل الإضاءة كويسة؟ المخرج كويس؟ المثل بيعيد نفسه؟ دا الي إحنا بنستفيد منه كمتفرجين.” من هذه العبارة يتضح المسعى الذي يسعى عبد الباقي إلى دعمه، وهو تقليص دور التفاصيل الشخصية في بناء حكم حول العمل الفني، والتفات نحو مقومات الفيلم نفسه كمعيار رئيسي لحكم.
وعلى جانب آخر، تطرق عبد الباقي إلى حوارٍ دار حول الانتقادات الموجهة له بسب ارتباطه بنجوم مسرح مصر، وهو موضوع يثير كثيراً من الأسئلة حول موضع الفنان من فرقته الفنية والمسؤولية الملقاة على عاتقه كواجهة لجمهوره ولجماهير. وقال في هذا الشأن: “الشباب دول محسوبين عليا، فلما حد فيهم يعمل الناس بتخيل إنهم بيكلموني أو أنا الي باخد قرارتهم، وده مش حقي، أنا لو كنت أقدر أفيدهم كنت فدت نفسي، والجمهور طبعًا ليه ذوقه وليه حق يعترض، بس مينفعش نغلط فيهم ولا فيا.” وهذا التصريح يعكس وعي عبد الباقي بالحدود بين دور الفنان كمرجع ومؤثر وبين استقلالية النجوم الشباب ومسؤوليتهم الفردية أمام الجمهور والمعنين بعملهم.
ولم يغب عن حديثه عنصرٌ حيوي آخر مرتبط بتجربة الإنتاج والمهنة، حيث أشار إلى حادثة داخل إطار تصوير فيلم “جحيم تحت الماء” تصل بتأخر شخصياته الفنية عن الدخول إلى المشهد، في سياق حديثه عن تفاعل الجماهير مع المواقف الفنية والمهنية. وفي إشارة إلى واقعة محدة، قال: “في تصوير فيلم جحيم تحت الماء، اتأخروا على الفنان عادل أدهم، ولما دخل الاستوديو واحد قاله: يا أستاذ السينما المصرية، رد عليه بانفعال وقال كذا السينما، أنا اترعبت منه وقتها.” هذا الوصف يكشف جانباً من الديناميكية الحقية في مواقع التصوير وأثرها النفسي والمعنوي على الأفراد العاملين في صناعة السينما، وهو جانب يهم جمهور المتابعين لنقاد والصناعة على حد سواء.
<.> النطاق التحلي لمقاربة النقدية التي طرحها عبد الباقي يلتقط قلقاً مشروعاً من وجود فجوة بين تصور النقد وتقدير الجمهور لسينما. فالنقد، كما يرى، ليس مجرد تعبير عن الرأي الشخصي أو عن أمور ثانوية تخص حياة الفنانين، بل هو رصيد معرفي يتطلب قراءة متماسكة لعناصر الفيلم وأنساقه الفنية. وهذا ما يحث عليه الفنان من خلال حديثه في مهرجان VS-film، حيث أكد أن على النقد أن يبقى أداة تعلم وتطوير لجمهور وليس مجرد وسيلة إثارة أو استهلاكاً سطحيّاً.
ومع ذلك، يظل الهدف الأساسي في حديثه مركّزاً حول قدرة النقد على خدمة المشاهدين وتوجيهم إلى قراءةٍ أعمق لعمل السينمائي، بعيداً عن التماهي مع أسماء معيّنة أو الترويج لشخصيات بعينها. فالنقد الحقي وفق تصور عبد الباقي هو الذي يجعل المشاهد يثري تجربته البصرية، ويفهم الإخراج والإضاءة والتمثيل والإعداد والسيناريو بصورة أكثر عمقاً وعياً. وفي هذا السياق، يربط عبد الباقي بين ذكره لقيمة النقد وبين متطلبات الجمهور من جهة، وبين التزام النقد نفسه بمعاير موضوعية وجمالية من جهة أخرى.
إنه حديث يفتح باً لحوار حول طبيعة النقد في مهرجانات السينما، بينما يعكس في الوقت نفسه التوازن الواجب الحفاظ عليه بين النقد والمؤسة الفنية وبين الجمهور وذائقته. فالمسرح والسينما ليستا مجرد مجرّد أعمال تُعرض وتُختبر بل هي منظومات ثقافية تُسهم في تشكيل الوعي الفني والاجتماعي، ويصبح النقد حلقة وصل بين الإبداع والجمهور، عندها يتحول إلى أداة لإثراء وليس إلى أداة لإسقاط الحكم أو الإضرار بمكانة الفنانين.
وهكذا يظل قول أشرف عبد الباقي يطرح سؤالاً بنّاءً عما ينبغي أن تكون عليه النقدية السينمائية في العالم العربي: هل نبتغي نقداً يفسر العمل الفني بمعناه الشامل ويقوّي تفاعل الجمهور معه؟ أم نكتفي بنقد يركز على تفاصيل قد لا تنعكس في نجاح الفيلم؟ الإجابة ليست بسيطة، لكنها تطلب وعيًا مستمرًا بأن النقد ينبغي أن يحافظ على مهنية عالية، وأن يظل منفتحاً على التطور والتجديد في أسلوبيته وأدواته بما يخدم الفن والناس.
ما يجب التفات إليه أيضاً في هذا السياق أن عبد الباقي يعبر عن فكرة المسؤولية المشتركة بين الفنان والنقاد والجمهور، فكل طرف له دوره من دون أن يتجاوز حدوده. وهذه الرسالة، إن مؤدىها واضح، تؤكد أن الفن في نهاية المطاف هو بناء ثقافي جماعي، وأن النقد هو المحرك الأساسي لفهم هذا البناء وتطويره بما يعود بالنفع على المشاهدين والمجتمع الفني نفسه.
التجربة التي يشاركها عبد الباقي في حديثه، سواء فيما يتعلق بنقط النقد أو بقضايا نجوم مسرح مصر أو واقعة التصوير في جحيم تحت الماء، تبرز أهمية الحوار المستمر والشفافية في صناعة الفنون. وهذا الحوار، وفقاً لما يُطرح من قبل فنان يحظى بمكانة مؤثرة، يمكن أن يسهم في تعزيز وعي المتلقي وتوجيه نحو قراءة فنية أعمق ومتوازنة.
وهكذا يظل محور النقد في شكله المثالي هو: قراءةٌ بناءةٌ تسعى إلى رفع مستوى العمل الفني ومساعدة الجمهور في فهمه وتقديره بشكل أوسع، وليس مجرد نقاشات حول أمور جانبية قد لا تعكس ماهية العمل الإبداعي ذاته.
النقد يجب أن يركّز على الفيلم
في هذا السياق، يبرز محور أساسي طالما طالبت به أقلام ونقاد فنيون: النقد يجب أن يركّز على الفيلم بوصفه كياناً فنياً شاملاً يعكس رؤية المخرج والتقنيات والمستوى العام لأداء والكتابة والإخراج، بعيداً عن أي تفاصيل شخصية قد تُسقط قيمة العمل وتشوّه حكم المشاهدين. هذا الموقف يعكس أولوية في فهم النقد كأداة لتقيم الفن لا لتركيز على حياة الفنانين الخاصة أو على ترهات وحوارات جانبية، وهو ما يعزّز القيمة المعرفية لنقد وصدقية من يقدمه.
تأثير النقد وتوجيهات لجمهور
أما النقطة الثانية في طرح عبد الباقي فتركّز على كيف يمكن لنقد أن يعمل كمرشد لمشاهد وليس كمعيار قاسي يفرض قيود على الفن أو يحصره في قوالب محدة. إذ يرى أن الجمهور له ذوقه وحقه في الاعتراض، لكن ذلك لا يجوز أن يتحول إلى توجيه يسيء إلى الفنانين أو يحكم عليهم بصورة عامة بناءً على أمور شخصية لا تمس جوهر العمل الفني. وتؤكد هذه الرؤية على دور النقد كجسر بين الإبداع والقراءة الجماهيرية، وتدعو إلى توازن يحفظ كرامة الفنانين ويضمن جودة التحليل وشفافيته.
الجمهور والنجوم: مسؤوليات متبادلة
في جانب آخر، يعكس حديث عبد الباقي علاقة الفنانين بقيادتهم وبالنجوم الشباب الذين يحظون باهتمام الجمهور؛ وهو يرى أن هؤلاء الشباب جزء منظومة الموهبة التي يجب أن تُدعم وتُعز بشكل يحق مصالحهم الفنية دون أن تُسخَّر ضدهم الاتهامات أو التصورات الخاطئة. هذه الرؤية تشد على أن المسؤولية مشتركة بين من يقدّمون النقد ومن يقدّمون الفن، وأن الحوار المتزن هو السبيل لبناء مسار فني صحي يفتح أمام الجماهير فرصاً لفهم أعمق وتحليل أداة أكثر فاعلية.
حادثة التصوير وتداعياتها الفنية
أما الجزء المتعلق بتجربة التصوير فيلم “جحيم تحت الماء” فغالباً ما يُستخدم كدليل عملي على طبيعة العلاقات في مواقع العمل السينمائي والتأثير النفسي لردود الفعل أثناء التصوير؛ فذكر الحديث عن وصول الفنان عادل أدهم إلى الاستوديو ورد فعل أحد الحاضرين على صعيد الغة المعلنة يعكس جانباً من التوتر الإيجابي الذي يمكن أن يرافق إنتاج السينما، وهو ما يضيف إلى فهم الجمهور لواقع صناعة الأفلام وتفاعل أفرادها مع بعضهم البعض تحت ضغط الزمن والإنتاج. إن هذه التفاصيل، رغم بساطتها، تهم المعنين بعلاقة الفن بالجمهور لأنها تضع الظلال على بيئة العمل وتؤثر في المزاج العام وتوقعاته من المشاهد القادمة.
تظل الرسالة الجوهرية من كلام عبد الباقي واضحة في هذا السياق: النقد ليس ساحة لخصومات ولا منصة لإطاحة الفنانين بلا سند، بل هو أداة لتقويم الفن وتحفيز التطور وبناء جسر من الثقة بين الإبداع والجمهور. وهذا ما تدعو إليه كلمات الفنان في مهرجان VS-film وتكتسب أهميتها في سياق الحوار الفني الجاري بين مختلف أطراف الصناعة.
يمكنك قراءة المزيد في المصدر.
لمزيد من التفاصيل اضغط هنا.














































































































