كتب: أحمد عبد السلام
في أمسية مهيبة، وفي ظل أضواء ساطعة تعلن ميلاد صرح حضاري جديد، كان جمهور الحفل على موعد مع لحظة تاريخية جمعت بين الذاكرة والواقع. فيلم توثيقي عُرض خلال افتاح المتحف المصري الكبير تناول قصة اكتشاف مقبرة الملك توت عنخ آمون، وأعاد إلى الأذهان اسم طفل مصري من الأقصر كان له دور محوري في الحظة الفارقة التي غيّرت مسار التاريخ الأثري. كانت تلك الحظة بمثابة عودة لذاكرة إلى البداية، حيث أدار المشهد أنظار العالم إلى نار الإصرار المصري والتفاني في العمل، وخصوصاً إلى الرجل الذي لم يتجاوز اثنتي عشرة سنة حين اكتشف مدخل المقبرة: حسين عبدالرسول. في حوار خاص أجرته «اليوم السابع» مع نوبى حسين عبدالرسول، ابن ذلك المكتشف، تراقصت الدموع على وجنتيه وهو يصف مشاعر العائلة أمام الكاميرات وخلفها مشاعر ملاين المصرين الذين ظلوا يتابعون القصة بعيون مبسوطة من الفخر وحنين إلى الماضي. قال نوبى وهو يصف لحظة العرض: كنت أتابع الفيلم والدموع تفيض من عينيّ، والدي الذي كان طفلاً حينذاك يقف في وادي الملوك وهو يحرك حجرًا صغيرًا، فظهر لأول مرة طريق الوصول إلى سرّ عظيم. هذه الكلمات تعبّر عن شعور العائلة بأن الحظرة التي طال انتظارها قد وجدت أخيراً من يرد إليها الاعتبار ويعيد رسم الصورة كاملةً.
في تلك الأمسية، بدا الحفل وكأنه يكتب صفحة جديدة في تاريخ ذكرى الأجداد وتوثيق جهودهم. لم يكن المشهد مجرد عرض سينمائي، بل كان اعترافًا واسعًا بجهود المصرين الذين عملوا في الحفائر مع فرق بعثات أجنبية، وبخاصة العاملين المصرين الذين كثيراً ما تجاهل التاريخ إنجازاتهم. كان صوت المتحدثين يرد فكرة أن رد اعتبار نجل مكتشف توت عنخ آمون ليس مجرد شعور عائلي، بل تصحيحٌ لصورة تاريخية ظلّت متحفظة على حق المصرين في سرد تفاصيل اكتشافاتٍ كبرى. هذه الرؤية تعكسها لحظة حضور اسم حسين عبدالرسول كإحدى العلامات التي يركّز عليها الاحتفال: اسمٌ يمثل جيلًا من الفلاحين والعاملين في الحفائر الذين صاغوا أقدار تاريخ المصرين بعقولهم وقلوبهم، وبأيديهم التي حفرت وآمنت بعطاء الحاضر.
ولكن القصة لا تقتصر على الحظة التي اندفعت فيها العواطف وامتلأت بها الصور. فالتوثيق الذي رافق الفيلم يعيد ترتيب خطوات تاريخية دقيقة، بدءاً من الحظة التي لاحظ فيها حسين عبدالرسول وجود حجر يختلف شكله بين الأرض المحيطة، حين كان يسير مع فريق الحفريات في وادي الملوك. تلك الحظة، بحسب روايات والده، كانت البداية الفعلية لأعظم كشف أثرى في القرن العشرين، وإن كان التاريخ قد نسبه في حينه إلى العالم البريطاني هوارد كارتر. حينها، كان يتركز الانتباه على الرجل الذي كان يسير بمهمة الخدمة فقط، ثم يحين الوقت ليتبدّى الفارق: حجر بسيط على الأرض يمكن أن يفتح بابًا إلى أسرارٍ عتيقة. هذه التفاصيل الدقيقة تيح لمتابع أن يرى أن الاكتشاف لم يكن وليد صدفة، بل نتيجة عملٍ دؤوب وتراكمٍ معرفي جمع بين الخبرة المصرية والشجاعة العلمية الغربية.
فيما يخص العاطفة والتعبير عن التقدير، يبرز في حديث العائلة صدى واضح لضرورة الاعتراف بكل من شارك في هذا المسار الطويل. يذكرون أن المتحف المصري الكبير لم يُنشأ ليقتصر على عرض التماثيل والكنوز فقط، وإنما هو منصة لحفظ الذكريات وذكر أولئك الذين بذلوا جهداً خارج إطار الشهرة المصاحبة لكارتر وشركائه. في كلمات الأبناء والآباء، يتضح أن الاعتراف العلني باسم حسين عبدالرسول وأقرانه من العمال المصرين ليس إلا جزءاً من مسار طويل من التوثيق والتقدير. وهذا ما يجعل المتحف ليس مجرد مبنى حديثاً، بل شاهدًا حيًا على أن المصرين هم عماد الاكتشافات، وأن التضحيات التي قدموها تظل حجر الزاوية في بناء الهوية الوطنية وتاريخ التنقيب في وادي الملوك.
ومن أجل فهم أوسع لدور العائلي وتأثيره في مشهد الآثار، يذكّر الحديث بأن جد العائلة، محمد عبدالرسول، كان صاحب دور بارز في العثور على خبيئة الدير البحري، وهي من بين أهم الاكتشافات الأثرية في تاريخ مصر. الخبيئة ضمت نحو أربعين مومياء ملكية، واشتملت على أسماء بارزة مثل الملكة حتشبسوت والملك رمسيس الثاني وغيرهم من ملوك الدولة الحديثة. هذا الحدث شكّل نقطة تحول في فهم العالم لتحنيط والدفن في وادي الملوك، وتوثّق لاحقاً فيلم «المومياء» لمخرج شادي عبدالسلام، الذي جسّد القصة الحقية لعائلة وروابطها العميقة بالبعثات الأجنبية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. هذه الروابط ليست مجرد تفاصيل تاريخية، بل هي دلات على خبرة عميقة ومكانة ثابتة لعائلة ضمن المجتمع الأثري الأقصرى.
ويرى نوبى في هذه الرحلة أن تغير الصورة التاريخية لتاريخ الاكتشاف يبدأ من وجود ذلك الفيلم العابر لزمن، الذي يعرض لمرة الأولى في هذا الحدث الكبير قصة طفل مصري بدأها، ثم صانها الجدّون والآباء من بعده. فالمتحف المصري الكبير، كما يقول، ليس فقط مكاناً يضع فيه التاريخ تماثيلٍ ونُصُباً، وإنما يقدّم نموذجاً حياً يبيّن كيف يُصنع التاريخ. وبوجود اسم والده في شريط الفيلم الذي يعرض أمام العالم، يبدو أن التاريخ بدأ يتغير، وأن القص المخفية التي كُتبت لقرون من قبل لم تُقرأ لأنها كانت تحتاج إلى صوتٍ يتقن الغة المصرية ويملك الجرأة لرفع الستار عن الحقيقة.
إلى جانب ذلك، لا يغيب عن العائلة الشعور بالألفة والانتماء لأقصر، المدينة التي شهدت ظهور هذا التاريخ وتوثيقه. فالعائلة تابع باستمرار مع المسؤولين في الأقصر، وتشارك في العديد من المناسبات لتوثيق قصة والدها، وتقدم الصور والمستندات التي تحكي تفاصيل عملها. العلاقات بين العائلة والبعثات الأجنبية كانت، وفق ما يرويه أفرادها، تقوم دائماً على الاحترام المتبادل. وفي هذا الإطار، يبرز وصف الوالد كإنسان بسيط ومتواضع، لكنه يمتلك كرامة وفخرًا لا يقبلان الوصف، إذ كان يحب العمل في الآثار، ويؤمن بأن كل حجر في طيبة له روح، وأن من لا يشعر بتلك الروح لن يفهم سر الحضارة الفرعونية. هذه الرؤية تعكس واقعاً ملموساً في حياة العامل المصري الذي كتب اسمه بمداد العطاء وبقوّة الإرادة.
المتحف المصري الكبير لم يَبنِ حياته على عرض الكنوز وحدها، بل على سردٍ حيّ يحكي قص الناس الذين شيدوا هذا التاريخ بأعمالهم الشاقة. في لقاء العائلة وتوثيق تاريخهم، تجلى فلسفة جديدة تكرّس فكرة أن التاريخ ليس حكراً على العلماء الأجانب، بل هو نتاج إنسان مصري ظل يعمل خلف الكواليس سنوات طويلة، حتى يجد العالم نفسه أمام فيلم يحاكي سرد القص الحقية التي تستحق الذكر والتقدير. وبذلك، يفتح المتحف باً أمام القراء والنشء ليستمعوا إلى صوت الأجيال التي صنعت المعرفة، وليتأكدوا أن تاريخ مصر ليس مجرد حكايات مروية بل هو نهج عمل مستمر، ترويه الأجيال وتعيد صياغته في كل مناسبة تستدعيها الذكرى والافتاح.
ومع كل هذا، يظل تاريخ العائلة العريق في الأقصر أمداً طويلاً يتصل بالشتى من الحقب والبعثات، وتبقى قصة والاِد في وادي الملوك درساً واضحاً في أن العمل الجماعي يعز المكانة ويعيد الاعتبار لمن خدموا العلم قبل أن تُرفع أسماؤهم إلى مكانة تُستذكر فيها الأرواح التي صنعت التاريخ. ويظل الافتاح الأخير لمتحف المصري الكبير مناسبة لتذكير العالم بأن قص المصرين في الحفظ والتوثيق والبحث ليست حكراً على جيل بعينه، بل هي إرثٌ يشتغل عليه الحاضر ليبقى فاعلاً ومؤثراً في سرديات الثقافة العالمية، وليؤكد أن مصر تعرف كيف تصنع الحدث وتعيد لناس حضورهم في صفحات التاريخ.
يمكنك قراءة المزيد في المصدر.
لمزيد من التفاصيل اضغط هنا.














































































































