كتب: إسلام السقا
يأتي افتاح مقبرة أمنحتب الث بالبر الغربي كحدث يبرز عمق الازدهار الفني والثقافي الذي ميز عهد الدولة الحديثة في مصر القديمة. وتقع المقبرة في البر الغربي لأقصر وتُعد من أبرز المقابر الملكية لما تحمله من زخارف ونقوش ملونة تعكس مشاهد دينية ورمزية عن رحلة الملك في العالم الآخر ومع الآلهة ومع روح أبيه. وتؤكد هذه النقوش والرموز على مكانة الملك أمنحتب الث كركيزة فنية وحضارية في تلك الحقبة، كما تسلط الضوء على تقدير المجتمع المصري القديم لموت والعبادة والتأمل في العالم الآخر. وتختزل المقبرة في جدرانها وقوامها رسالة فنية عابرة لزمن، تبرز تلاقي الفن والدين والسياسة ضمن فضاء واحد يظل محط أنظار الباحثين والمهتمين بالحضارة المصرية القديمة. يظل هذا الإنجاز التراثي شاهداً حياً على سعي الإنسان لحفظ والإرث وتوثيق تاريخ فئة من أنهار الحضارة التي أسهمت بشكل عميق في تشكيل الهوية الثقافية لمنطقة.
أبعاد تاريخية وفنية لمقبرة
تُعد مقبرة الملك أمنحتب الث واحدة من أكبر المقابر الملكية الموجودة في البر الغربي بمدينة الأقصر، وتُبرز في تكوينها المعماري والزخرفي طابع الازدهار الفني الذي امتدت آثاره عبر عصور متعدة. تمتاز بزخارفها الفريدة ونقوشها الملونة التي تجسد مشاهد دينية ورمزية تناول رحلة الملك في العالم الآخر، وتظهر تمازجاً بين الرموز الدينية والتعبير الفني الذي يمثل الهوية الملكية في عصر الدولة الحديثة. هذه النقوش والرسمات ليست مجرد زخرفة، بل هي شاهد حي على العلاقة القائمة بين الملك والآلهة وروح أبيه، وتعبير عن قيم الحياة وما بعدها في وعي المصرين القدماء. في هذا الإطار، تعكس المقبرة كيف ظل الفن المصري قادراً على توثيق سيرة الملك ومكانته عبر رسومات تعود بمكانة التاريخ إلى سلة من الحِكَم والطقوس التي تربط بين السياسة والدين والثقافة. إن هذه السمات جعلت من المقبرة معلمًا حضاريًا يستقطب الاهتمام العلمي والجماهيري، ويمثل نموذجاً رصيناً لما خلّفته الحضارة الفرعونية من إرث تعليمي وفني يثري فهمنا لدولة الحديثة في مصر.
افتاح مقبرة أمنحتب الث بالبر الغربي: المعنى والدلات
يجسد افتاح مقبرة أمنحتب الث بالبر الغربي معنى عميقاً من حيث الحفاظ على تراث ثقافي فريد وربط الحاضر بجذور ماضٍ عريق. وقد جاء هذا الافتاح بعد انتهاء مشروع ترميم طويل استمر لأكثر من عقدين من الزمن، ما يعكس التزام بالحفاظ على لوحة تاريخية فنية واقعية عالية القيمة. وتبرز الدلات العلمية والثقافية لتلك الخطوة في تعزيز فهمنا لمجمل المشروعات التي تعلق بالحفظ والتوثيق لأعمال الفن والعمارة في المقابر الملكية. كما يعيد الحدث إحياء الروابط بين البحث الأكاديمي والتطبيق المعماري، حيث يتيح لخبراء والباحثين ولزوار فرصة الاطلاع على تقنيات حفظ الوحات الجدارية والحِرف المستخدمة في ترميم الأحجار والهندسة المعمارية داخل المقبرة. وبذلك، يصبح افتاح المقبرة مناسبة تسلط الضوء على الجهود المستمرة لحفاظ على هوية الحضارة المصرية القديمة وتوفير موارد معرفية غنية تيح لمهتمين رصد التطورات التي شهدها مشروع الحفظ والترميم على مدى سنواته الطويلة.
مراحل مشروع حفظ الوحات الجدارية والترميم
تم تنفيذ مشروع حفظ الوحات الجدارية لمقبرة الملك أمنحتب الث على ثلاث مراحل متالية، انطلقت المرحلة الأولى بين عامي 201 و204. هدفت هذه المرحلة إلى وضع الأس العلمية لإجراءات الحفظ وتقيم التداعيات التي أحدثتها عوامل الزمن والتعرية على الزخارف والكتل الحجرية، وتضمنت وضع خط حماية وترميم أولية تعز من صمود المكونات الفنية لمقبرة. تلتها المرحلة الثانية خلال الفترة من عامي 2010 إلى 2012، حيث ركز العمل على استمرار أعمال الحفظ والترميم وتطوير الأساليب التقنية المعتمدة في حفظ الوحات الجدارية، إضافة إلى إجراء تحليلات معمارية ثلاثية الأبعاد وتوثيق ملامح الأحجار. وصولاً إلى المرحلة الثة التي انطلقت عام 2023 واستمرت حتى 2024، وغطت تعزيزاً أوسع لمقتنيات المقبرة وتحديثاً منهجياً لإجراءات الرصد والوقاية والصيانة. إن طول مدة تنفيذ هذه المراحل يعكس التعقيد الفني والهندسي لعملية الحفظ وتحرّي الدقة في كل تفصيلة من تفاصيل الزخارف والمواد البنائية، بما يضمن استدامة النتائج وتقليل مخاطر التدهور المستقبلي.
التعاون الدولي في ترميم المقبرة
ساهم في تنفيذ مشروع حفظ الوحات الجدارية فريق دولي من خبراء الترميم المصرين والإيطالين واليابانين، حيث أفضى هذا التعاون إلى إحداث نقلة نوعية في مستوى أعمال الحفظ والترميم داخل المقبرة الملكية. اعتمد المشاركون على خبراتهم وتخصاتهم في ترميم الأحجار وحفظ الوحات الجدارية والهندسة المعمارية والمدنية، إضافة إلى مراقبة الصخور والمسح الضوئي ثلاثي الأبعاد وعلماء المصريات. هذا التنوع في الخبرات شكل جبهة عمل مشتركة قادرة على معالجة تعقيدات ترميم روائع فرعونية من حقبات مختلفة، وتوفير جملة من الإجراءات التقنية التي تضمن الحفاظ على التفاصيل الدقيقة لزخارف وتوثيقها بشكل دقيق. كما أسهمت الجهود المشتركة في تعزيز مستوى الكفاءة المهنية في مجال حفظ التراث، وتبادل المعرفة بين المؤسات العالمية والجهات المحلية بما يمد جسور التفاهم والتعاون المستمر في قضايا ترميم المواقع الأثرية.
الإطار المؤسي والتمويل والدعم الدولي
تم تنفيذ مشروع حفظ الوحات الجدارية لمقبرة أمنحتب الث تحت إشراف المجلس الأعلى لآثار، وبالتعاون مع جامعتي واسيدا وهيجاڜي نيبون اليابانيتين. وفي إطار هذا التعاون جرى ربط جهود الحفظ بمساعٍ دولية رامية إلى حماية التراث الإنساني، وتحت رعاية منظمة اليونسكو- الصندوق الاستئماني الياباني. هذا الإطار المؤسي والدعمي أتاح توفير الموارد الفنية والتقنية التي أسهمت في تطوير مناهج الترميم، وتوفير بيئة عمل مشتركة تجمع بين الخبرة المصرية وخبرات الشركاء الدولين. كما جسد هذا الدعم إطاراً نموذجياً لشراكات حفظ أثرية تعتمد على تقاطع الملكية الوطنية مع الرؤية الدولية في حفظ التراث الثقافي العالمي، بما يعز مكانة الأقصر كمرجع عالمي في علوم الحضارة وتوثيقها.
المخرجات والتأثير المعرفي لترميم
تجسد نتائج مشروع حفظ الوحات الجدارية لمقبرة أمنحتب الث نقلة في مستوى الوعي بالحفظ الديني والأثري والمعماري لأقصر وموقعها التاريخي. فقد أتاح العمل المشترك إمكانية الحفاظ على مكوّنات المقبرة، وتوثيقها وتقيم حالاتها بشكل علمي أكثر دقة، مع دعم تطبيق تقنيات المسح ثلاثي الأبعاد وتحسين آليات حماية الحجر والرسوم. وهذا بدوره يعز من قدرة الباحثين على دراسة مشاهد الرحلة الملكية وربطها بسياقاتها التاريخية والفنية، كما يسلّط الضوء على قيمة التنسيق الدولي في إدارة مشاريع حفظ التراث. في إطار هذه النتائج، يبرز أن المقبرة ليست مجرد معلم أثري، بل نموذج حي يوضح قدرة المجتمع الدولي والمحلي معاً على حماية الإرث الإنساني وتطويره بما يخدم وصول المعرفة إلى جمهور أوسع. وتبقى هذه التجربة درساً عملياً يرسّخ قيم التوثيق والحفظ والبحث العلمي كمسارات أساسية لحفاظ على الذاكرة الثقافية لمجتمعات عبر العصور.
يمكنك قراءة المزيد في المصدر.
لمزيد من التفاصيل اضغط هنا.














































































































