كتب: كريم همام
تسعة عشر عامًا مضت على واحدة من أعظم الحظات في تاريخ الآثار المصرية الحديثة، حين نجح موكب الملك رمسيس الثاني في الوصول من ميدان باب الحديد إلى محيط المتحف المصري الكبير. وليس الحدث هندسيًا فحسب، بل هو حكاية إنسانية عن رجل بسيط وقف بثبات أمام تاريخ أجنحته الأثرية، فكان عنوانًا لـ«رجل المهمة المستحيلة» الذي حمل على كتفيه تاريخ أجيال. فهذه الحظة، التي جمعت بين الإصرار الوطني والمهارة الفنية، ما تزال حيّة في ذاكرة المصرين وتاريخهم المعماري والكنزي على حد سواء.
أبعاد تاريخية وهندسية
منذ اكتشاف تمثال الفرعون المحارب رمسيس الثاني في عام 1820 على مقربة من ميت رهينة بالجيزة، وهو يواجه مسارًا صعبًا بين السفر والاغتراب. فقد عانى التمثال من الوزن الذي لم يتجاوز 83 طنًا، وهو ما حال دون نقله بسهولة حينها، فظل في مكانه قرابة قرن وثلاثين عامًا وهو مغطى بالطين والتراب، تاركًا قيمة عظيمة لم تُدركها العيون في زمنها. وبعد ثورة 1952، قر الرئيس جمال عبد الناصر إهدائه رسالة حضارية إلى العالم بنقل التمثال إلى قلب العاصمة، إلى ميدان باب الحديد، حيث تغير اسمه لاحقًا ليصبح ميدان رمسيس. تلك الشحنة التاريخية أطلقته كقصة تُصوِّر العزم على إعادة بناء مجد حضارة مصر القديمة.
إشراف وهندسة ترميم ونقل مهيب
في تلك الفترة تولى الدكتور أحمد عثمان الإشراف الفني والهندسي على عملية الترميم والنقل إلى الميدان، ثم جرى ربط أجزاء التمثال بعضها وتثبيتها بمواد حديثة، وصُمّمت له قاعدة خرسانية ضخمة. نجحت الجهود في أن يقف التمثال شامخًا لأول مرة في الميدان، ضمن واحدة من أبرز عمليات النقل الأثرية في تاريخ مصر الحديثة. وعلى مدار أكثر من نصف قرن ظل التمثال يتحدى العوامل المناخية والتلوث والحركة من جانب الطرق والكباري المحيطة، حتى أُثيرت فكرة نقله مجدًا في ظل التحديات البيئية والضجيج الناتج عن المدينة.
الفكرة العبقرية وتحدي التنفيذ
في سنوات لاحقة، وتحديدًا مع تحولات البيئة المحيطة، جاءت فكرة نقل التمثال واقفًا داخل هيكل متحرك يحافظ على مركز ثقله ويمنع الاهتزات من السقوط. اقترحتها فرق هندسية داخل شركة المقاولون العرب، وتردت في البداية كفكرة لا يمكن تنفيذها نظريًا، لكن التحدي ظل يحفز العقول على ابتكار حلول أكثر جرأة. عندما شكت شركة فرنسية في قدرة المصرين على تنفيذ المهمة، تدخلت الدولة بإصدار قرار سيادي بنقل التمثال خلال أربعة أشهر. وتولت شركة المقاولون العرب تجهيز المعدات الخاصة، واعتماد ونش عملاق بسعة 475 طنًا، وبُني نموذج تجريبي لاختبار النقل وهو واقف، لبدء الاستعدات لهذه المعركة الهندسية.
من هم الأبطال الحقيون وراء الإنجاز؟
وسط هذه التحضيرات الفنية كانت هناك شخصية عربية محورية، رجل بسيط وظّفته الظروف ليكون حامل رسالة الأمة. اختير الحاج أحمد الغرباوى، ابن قرية الخوالد في محافظة البحيرة، ليكون سائق الموكب، وهو في الخامسة والستين من عمره، يملك أكثر من أربعين عامًا من الخبرة في القيادة دون خطأ. اختارت شركة نوسكو أن يتولى المهمة بنفسه بدل السائق الألماني الذي كان سيرافق الشاحنة، إيمانًا بخبرته وسمعته الدقيقة وانضباطه. وقبل الإقلاع جلس أمام التمثال لحظات طويلة وهو يتأمل وجه الملك، ثم قال عبارته الشهيرة: “على بركة اله يا مولانا”.
رحلة الشاحنة: دقة وثبات ورجاء تاريخي
انطلقت الشاحنة الضخمة ذات 128 عجلة في طريقها، وتقدمت بطء لا يتجاوز أربعة كيلومترات في الساعة. استغرقت الرحلة 1 ساعة من الخطر والترقب، مع وجود حذر دائم من جانب أجهزة القياس التي ترصد أي اهتزاز قد يعكر مركبة التاريخ. ورغم التحسب من أي مطب أو جسر قديم، ظل الغرباوى ثابتًا، مضبطًا أنفاسه على إيقاع تاريخي يربط الحاضر بالماضي، حتى اجتاز الطريق بنجاح وأعلن الجميع فرحهم بانتصار الهندسة والمثابرة.
الأثر الإنساني وذكريات أهله
كان العثور على الحاج أحمد الغرباوى أمراً صعبًا بسب عمره وغيابه عن الأعين بعد سنوات من العمل المخلص، فالتقينا أسرته وأسئلة الشارع المصري تصيغها قصه كقصة أبطال من الحياة الواقعية. كان لسان حال عائلته يروّج لقيمه في التواضع والانضباط، فظهرت شهادات ابنائه وأقربائه حول كونه سائقًا محترفًا، لا يقبل المساعدة، ويمتلك ثقة عالية بنفسه. يقول أحد أقاربه إن الشركة قد لقبته بـ”رجل المهمات الصعبة” نظرًا لقدرته على إنجاز المهمات الصعبة دون تعب ظاهر. وكان السؤال الملح حين رُزق بالنقلة: من سيقود مركبة التاريخ، المصري أم الأجنبي؟ وهنا جاء الاختيار الحاسم الذي ربط اسمًا بمجد لمصر.
عائلة الغرباوى وتفاصيل الحظة
يؤكد أقرباؤه أن الشاحنة التي تحمل التمثال، صنعت خصيصًا لهذا الغرض، وكانت المواصفات الفنية لها غير مسبوقة. كان الغرباوى يركب مركبة قد صُمِّمت خصيصًا لنقل، وهو في هذه الرحلة يضع سلامة التمثال فوق كل اعتبار. يروي أقرباؤه أنه لم يلاحَق الشهرة ولا الرغبة في التكريم، بل كان همه الأوحد أن يتم النقل بنجاح. وذات مرة ذكر أحد أقاربه أنه عندما انتهت الرحلة وصل التمثال إلى مقره الجديد، شعر بارتياح فائق لأنه أتم المهمة بنجاح وبناءً عليه يستطيع المصريون أن يفخروا بماضٍ يحيا في حاضرهم.
ذاكرة تقول: يوم الخامس والعشرين من أغسطس 206
تختزن ذاكرة مصر حكايات كثيرة، لكن هذه الحكاية تميزت بأنها جمعت بين الإنسان والآلة والتاريخ. في يوم الخامس والعشرين من أغسطس 206، كان قلب الشعب المصري ينبض بالخوف والفرح في آن واحد، فيما يتحرك تمثال رمسيس الثاني على مركبة ضخمة يشارك فيها 128 عجلة. كانت الرحلة التي استغرقت نحو إحدى عشرة ساعة شاهدة على ثبات الإنسان وتفانيه في نقل تراث أمته، لتبقى ذكرى تُروى لأجيال بوصفها مثالاً حيًا على أن البطولة ليست في الألقاب وإنما في القلوب التي تقبل التحديات وتسمو بالوطن.
جيل يحفظ القصة ويصوغها لأجيال القادمة
لم يكن أapsعة أن يترك الحكاية أثرها في القرية التي وُلد منها الغرباوى، بل امتدت إلى أحفاده الذين يشاركون في حفاظ هذا الإرث. فرغم الفراق الذي غمره بالوفاة عام 201، تبقى قصة “حامل الفرعون” مثالاً حيًا في مدارس التاريخ الحي. وتروي أسرة الحاج أحمد الغرباوى كيف كان يقظًا مستيقظًا، وكيف كان يخاف عليهم لكنه لا يعترف بالخوف في وجه التحدي. وفي لقاء مع إحدى حفيداته، قالت طفلة صغيرة اسمها كارما: إنها فخورة بجَدِّها وتذكره دائمًا عندما يحكي والدها هذه القصة، وتؤمن أن جدها سيبقى رمزًا لقدرة المصرية على تحويل الحلم إلى واقع.
إنها قصة رجل بسيط يقود مركبة تاريخية، ويجعل من نقل تراث أمة معناه الشرف والوفاء لوطن. تاريخ يُروى، وأبطال يزداد حضورهم في كل قراءة، لأن الحكاية ليست مجرد نقل أثر، بل هي رسالة ثابتة بأن التاريخ لا يموت عندما يوجد من يحمله على كتفيه بثبات وقلب وعي يتسع لمجد.
يمكنك قراءة المزيد في المصدر.
لمزيد من التفاصيل اضغط هنا.














































































































