كتبت: سلمي السقا
أوضح الدكتور حسن القصبي، أستاذ الحديث بجامعة الأزهر، أن تراجع بعض القيم التربوية في المجتمع يعود بالأساس إلى غياب القدوة العملية داخل الأسرة. فالأبناء لا يكتسبون الأخلاق بالتلقين وحده، بل من خلال المشاهدة والتطبيق الواقعي لسلوك الوالدين في الحياة اليومية. وفي تصريحات يعبّر فيها عن واقع المجتمع التربوي، يؤكد أن القاسم المشترك في جميع قيم التربية هو مبدأ الصدق، وهو ذلك الخيط الذي يربط بين القول والفعل وبين الإنسان وخالقه ووطنه. إذا فعلاً كان لنا أن ندرك معنى الصدق كما ينبغي، بأن نكون صادقين مع الله ومع أنفسنا ومع الناس ومع الوطن، فإن واقعنا التربوي سيشهد تبدلاً عميقاً وتغيراً ملموساً في سلوك الأجيال القادمة.
أشار القصبي إلى أن الأسرة تمثل الوعاء الأول للتربية، وأن الطفل في مرحلته الأولى طينٌ قابل للتشكيل إذا توفّرت القدوة الحسنة. لذلك فإن على الوالدين أن يجسّدوا القيم التي يرغبون في غرسها في أبنائهم، لا الاقتصار على ترديدها بالشكل الكلامي فقط. فالقدوة عملية وليست مجرد حديث جميل، فحين يرى الأبناء الأمثلة الصادقة في سلوك الأبوين، ينتقل ما يراه إلى ما يعتاده في ذاته، ويتكوّن لديه نمط سلوكي يتناسب مع هذه القدوة. وفي هذا السياق، يؤكّد أستاذ الحديث أن صلاح الآباء هو حجر الأساس في حفظ الأبناء من الانزلاق إلى مسالك غير صحيحة، وأن تهيئة بيئة منزلية تتخذ من القيم محوراً ومرجعاً هي الخطوة الأولى نحو جيلٍ أكثر تقبلاً للمبادئ والحقوق والواجبات.
الصورة العملية للقدوة تتجسد، وفقاً لما ذكره القصبي، في الصدق كخيار يومي لا يقتصر على عناوين دينية أو تعليمية فقط. فبناء الثقة بين الوالدين والأبناء يتطلب التزاماً صادقا في الكلام والفعل أمام عيون الأبناء، ومعاملةً تراعي القيم الأخلاقية والانسجام بين ما يُقال وما يُفعل. وفي هذا الإطار، يشدد على أن التربية الناجحة تعتمد على التطبيق وليس على التنظير فقط، فالمعنى العملي للصدق يُظهر صدق النوايا وينقل الثقة إلى العلاقات الأسرية والمدرسية بما ينعكس إيجاباً على أخلاقيات الطلبة وسلوكهم.
أما الحديث عن المال وغايات التربية، فيرى القصبي أن التربية الصحيحة ليست جمع المال ولا تكديس الممتلكات، بل هي تقوى الله وخشية الله في السلوك اليومي. فالتربية الصالحة تُعدّ أداةً لحفظ الأبناء من الانحراف وتوجيههم نحو الالتزام بالقيم العليا التي تؤدي إلى صلاح الفرد وصلاح المجتمع. ويستشهد بالآية الكريمة التي تدعو إلى تقوى الله وخشيته حفاظاً على أولادنا في الحياة الدنيا والآخرة، مع الإشارة إلى قصة الغلامين في سورة الكهف كرمز إلى أن حفظ الأبناء يبدأ من حركات الآباء وتقواهم وتصرفاتهم اليومية.
وفي سياق تعزيز قيم التربية، يؤكد الدكتور القصبي على أن المعلم ليس مجرد ناقل للعلم، بل شريك أساسي في غرس القيم، لأن الطلاب يميلون إلى حب المادة عندما يحبون معلمهم وقدوتهم. التربية الناجحة تتحقق عندما يكون هناك تآلف بين المدرسة والمنزل، حيث يتكامل دور الأهل والمعلم في بناء شخصية الطالب وتجويد سلوكه. وفي هذا السياق، يؤكد أن صلاح الآباء سبيل إلى صلاح الأبناء، وأن الصدق هو الأساس الذي تُبنى عليه كل الأخلاق الأساسية في التربية الصفية والمنزلية.
القدوة في التربية ليست مفهوماً نظرياً فحسب، بل هي طريق عملي يتطلب الانسجام بين الأقوال والأفعال اليومية. عندما يرى الأبناء أموراً مستقيمة في سلوك الوالدين، يصبح من السهل عليهم تقليدها وتطبيقها في مواقف حياتهم المختلفة. ومن هنا فإن صلاح الآباء يصبح حجر الزاوية في أي منظومة تربوية تسعى إلى حفظ الأبناء وتوجيههم نحو قيمٍ راسخة تقودهم إلى الخير والتقوى. فالمعلمون والوالدان معاً يشكلون بنية المجتمع التعليمية، وتلك البنية لا تستقيم إلا بتوافر القدوة والصدق والتطبيق المستمر للقيم.
التربية القائمة على التطبيق والقدوة الحسنة تشكّلان نواة المنظومة التربوية الناجحة. ليس كافياً مناقشة القيم في المحاضرات أو المناهج الدراسية فقط، بل يجب أن تُمارس داخل الأسرة وتتجلى في تصرفات الآباء أمام أبنائهم وفي تعاملهم مع المحيطين بهم. في هذه البيئة، يكتسب الأطفال مهاراتهم الأخلاقية من خلال تقليد السلوك الإيجابي الذي يراه الطفل في والدته ووالده والمعلم الذي يعلمه، وهذا ما يجعل من الصدق والشفافية سلوكاً يومياً وليس شعاراً مؤقتاً.
أما كسب الثقة والانطباع الإيجابي، فهما أشكال إضافية من ثمار التربية القائمة على صلاح الآباء. عند توافر القدوة الطيبة، يتعلم الأبناء أن يتصرّفوا بإحسان مع أنفسهم ومع الآخرين ومع المجتمع، فيكون الإيمان والعمل الصالح سبيلاً إلى بناء شخصية متماسكة تتحلى بالعدل والرحمة وتتحاشى الغش والخداع. وهذا المسار من التربية يساهم في تعزيز قيم الانتماء إلى الوطن وتحمل المسؤولية تجاه الأجيال القادمة، وهو ما يشير إليه النص الأصلي في ارتباطه العميق بين صلاح الآباء وتربية أبناء صالحين.
خلال مسار التربية اليومية، يمكن للآباء أن يجعلوا من المهارات الأخلاقية أموراً ملموسة قابلة للتطبيق. يمكن للوالدين أن يبرزوا قيمة الصدق في مواقفهم اليومية، مثل قول الحقيقة حتى في المواقف المحرجة، أو الاعتراف بالخطأ عندما يخطئ الشخص، فهذا النموذج الواقعي يرسخ في نفوس الأبناء مبادئ التحمل والشفافية. كما يمكن تعزيز قيم العدالة والاحترام والتعاون من خلال مشاركة الأسرة في أعمال جماعية، وتفويض مهام بسيطة تعزز لدى الأطفال الشعور بالمسؤولية والتواضع أمام العلم والتعلم.
في نهاية المطاف، يظل الهدف الأساسي من هذه الرؤية التربوية هو حماية الأبناء من الضلال وتوجيههم نحو تقوى الله وبناء قيمٍ راسخة تسهم في تشكيل جيلٍ قادر على خدمة مجتمعه والارتقاء به. صلاح الآباء، كما يؤكد الدكتور القصبي، ليس مفهوماً عاطفياً فحسب، بل هو منهاج حياة، ينعكس في كل سلوك، وفي كل فعل، وفي كل خطوة نحو المستقبل. وبالتالي فإن تحويل الكلمات إلى أفعال يمثل التحدي الأكبر الذي يواجهه الآباء والمعلمون على حد سواء، وهو الطريق الذي يضمن حفظ الأبناء وصلاحهم وتربتهم تربيةً صالحةً تتسع للكون وتغني الحياة.
يمكنك قراءة المزيد في المصدر.
لمزيد من التفاصيل اضغط هنا.















































































































