كتبت: سلمي السقا
نشرت شبكة بي بي سي البريطانية تقريراً بعنوان «داخل غزة.. دمار شامل بعد عامين من الحرب»، لتسلط الضوء على مشهد صادم من قلب القطاع. رافقت مراسلة الشبكة لوسي ويليامسون قوات الاحتلال الإسرائيلي في جولة محدودة وخاضعة للرقابة في شرق مدينة غزة. من موقع مرتفع يطل على المدينة، وصل الوصف إلى حد التعبير عن أفق رمادي بلا حياة. المشهد يعكس حالة المدينة التي امتدت فيها الأحياء السكنية إلى أكوام من الحطام، وتلاشت معالم الحياة والبنية العمرانية السابقة في صورة تقطعها نيران الصقيع والأنقاض. وتؤكد الصورة المتخيلة في التقرير أن غزة التي ألفها الناس وتذكروها على الخرائط اختفت تماماً من الواقع المعاش.
تقول التفاصيل الواردة في التقرير إن المنطقة التي تمت معاينتها كانت من أوائل المناطق التي دخلها جيش الاحتلال الإسرائيلي في الأسابيع الأولى للحرب، ثم عاود الجيش التواجد فيها لاحقاً بعد أن أعادت حركة حماس تموضعها في ما تبقى من معاقلها هناك. هذه المراجعة الميدانية جاءت في وقت تشكل فيه الزيارة جزءاً من مشهد أوسع يرصد تأثير الصراع على الأرض، حيث تبرز في السرديات الإعلامية مسألة مدى حرية الحركة الإعلامية وتحديداً القيود التي فرضتها القوات المعنية على الوصول إلى الفلسطينيين أو إلى مناطق أخرى من قطاع غزة. وفي تصريحات متداولة، يشدد التقرير على أن القوانين العسكرية الإسرائيلية تفرض رقابة على المواد قبل نشرها، مع احتفاظ شبكة بي بي سي بسيطرتها التحريرية على المحتوى.
في رد فعل رسمي، أشار المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي إلى أن الدمار الذي رُصد لا يعتبر هدفاً في حد ذاته، بل نتيجة لوجود بنى تحتية محددة داخل البيوت—فتحات أنفاق أو أسلحة أو مواقع قناصة—وذلك وفقاً لما يزعم. هذا التصريح يعزز رواية تَركّز العنف داخل المناطق التي طالتها ساحات القتال، مع التأكيد على أن عمليات الرصد والتحليل جاءت ضمن إطار ما تراه السلطات العسكرية مبرراً أمنياً. ويظل وصف المشهد من جهة الصحافة أقرب إلى رواية سردية تلتقط واقعاً ميدانياً، يبرز فيه الفاصل بين الواقع الميداني وقراءات دوائر القرار السياسي والعسكري.
من جهة أخرى، يتضمن التقرير إشارات إلى أعداد الضحايا وتداعيات الحرب على السكان في غزة. فبحسب وزارة الصحة في القطاع، تجاوز عدد الشهداء الفلسطينيين 68 ألفاً منذ بداية الحرب؛ رقم يترتب عليه تبعات إنسانية واقتصادية واجتماعية ضخمة، وتدفع السكان إلى البحث عن سبل الاستمرار في حياتهم اليومية رغم النقص في الخدمات الأساسية وتآكل البنية التحتية. وفي المقابل، تتهم حركة حماس الجيش الإسرائيلي بارتكاب مئات الانتهاكات المرتبطة بوقف إطلاق النار المستمر منذ نحو شهر، في وقت يستشهد خلاله أكثر من 240 شخصاً خلال فترات الهدنة وفقاً للوزارة. هذه الأعداد تعكس وضعاً شديد الهشاشة وتزيد من مخاطر التصعيد المتبادل.
يلاحظ في النص الإعلامي أيضاً الإشارة إلى ما يعرف بخط الأصفر، وهو حد مؤقت يرسمه ما وُصف بأنه جزء من خطة السلام الأمريكية بقيادة الرئيس ترامب، وهو خط يهدف إلى تقسيم مناطق السيطرة بين إسرائيل وحماس. ورغم وجود هدنة ما، يذكر التقرير أن القوات الإسرائيلية ما زالت تخوض اشتباكات شبه يومية على طول هذا الخط. هذا البعد يثير مخاوف من أن تكون هناك تداعيات غير محسوبة على السكان المدنيين في المناطق حول الخط، بما في ذلك المخاطر اليومية التي تواجه العاملين في المجال الإنساني والمواطنين الذين يعيشون في ظروف قاسية.
كما يشير التقرير إلى أن الخطة الأمريكية تقضي بنزع سلاح حركة حماس وتسليم إدارة غزة إلى لجنة فلسطينية تشرف عليها جهات دولية. وفي المقابل، يؤكد المتحدث الإسرائيلي أن الجيش سيبقى في غزة «ما دامت هناك حاجة لضمان أمن المدنيين الإسرائيليين»؛ وهو تعبير يعكس مسألة امتداد التواجد العسكري وأثره على حرية الحركة والتنقل والعمليات الإغاثية في القطاع. وفي هذا السياق يعود الحديث عن الحدود المؤقتة وخيارات العودة إلى سيناريوهات أكثر تعقيداً في حال فشلت الجهود السياسية في تحقيق رغبة في استقرار دائم، وهو ما يجعل الواقع في غزة جزءاً من نقاش دولي متصاعد حول مستقبل المنطقة وخيارات إعادة الإعمار وإدارة غزة بعد النزاع.
دفق التفاصيل يوصلنا إلى أن المصير النهائي للمناطق التي شهدت الجولة المحدودة يخضع لموازين القوة وتوازنات القرار السياسي العسكري. فالتغطية التي اعتمدها المصورون والصحفيون والمراسلون في الإعلام الغربي، بما فيها شبكة بي بي سي، تلتزم بنسب من التوثيق الإعلامي لكنها تبقى رهينة قيود الوصول ورقابة المصادر والجهات المعنية. ويبرز من خلال ذلك السؤال حول مدى إمكانية الحصول على صورة أكثر اتساعاً لواقع السكان، وكيف يمكن لجهود التغطية الإعلامية أن تسهم في فهم الديناميكيات التي تقود إلى صراع مستمر وتداعياته على المدى الطويل.
في هذا السياق، يظل الخط الأصفر وخطة السلام الأمريكية محوراً رئيسياً في قراءة المشهد، مع وجود تصريحات من الجيش الإسرائيلي تؤكد بأن الهدف من وجود القوات ليس دائماً لتغيير الواقع السياسي في غزة وإنما لضمان أمن إسرائيل. وتبقى الحيازة العسكرية وتحديد المهام والتوازن بين الأمن الإقليمي والالتزامات الإنسانية معقودة في إطار لعبة القوى الدولية والإقليمية التي تشكل مستقبل غزة بشكل شبه دائم. إلى حين الوصول إلى تفاهمات سياسية تمنع المزيد من المعاناة وتوفر مساراً واقعياً لإعادة الحياة إلى المناطق التي شهدت دماراً واسعاً، ستبقى الزيارات الميدانية والتقارير الإخبارية تمثلان نافذة يطل منها العالم على واقع غزة المعقد. ومع كل ذلك، يستمر المدنيون في غزة في الاعتماد على أساليب الصمود اليومية، مع آمال بأن تتبدل الصورة في المستقبل بما يخفف عنهم وطأة الحرب ومآسيها.
يمكنك قراءة المزيد في المصدر.
لمزيد من التفاصيل اضغط هنا.















































































































