كتبت: سلمي السقا
نعيش اليوم في زمن تتزاحم فيه الأصوات وتتسارع فيه الخطوات نحو التطور الرقمي والذكاء الاصطناعي، وتتصاعد التحديات الثقافية والمعلوماتية التي تستلزم منهجاً واضحاً في البناء المعرفي. أمام هذا الواقع يطل مشروع ثقافي استثنائي من الشارقة كنموذج يفتح باباً أمام إعادة ترتيب الذاكرة العربية والأمن المعرفي على أسس العلم والمعرفة. ففي إطار الدورة الأربعين الرابعة من معرض الشارقة الدولي للكتاب أعلن صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، عن الانتهاء من المرحلة الأولى من الموسوعة العربية الشاملة في العلوم والآداب والفنون والأعلام. ليس هذا مجرد خبر عابر، بل لحظة تأسيس تاريخية تعلن عن نقلة نوعية تزيح التشتت التوثيقي وتدفع نحو توثيق شامل ودقيق يحفظ للمجتمع العربي إرثه العلمي والإنساني.
هذه الموسوعة ليست مجرّد تجميع للمعلومات، بل مشروع يهدف إلى بناء وعي معرفي يربط الماضي بالحاضر ويمهّد للأجيال القادمة أدوات فهم وتحليل دقيقة وموثوقة. إنها محاولة لإعادة صياغة الوعي العربي على أسس من الدقة الأكاديمية، بعيداً عن التجزئة والسطحية التي كُتبت بها مصادر معرفية حديثة في زمن تزاحمت فيه المصادر وتسرّبت إليه الأخبار المزيفة أحياناً عبر فضاءات رقمية مفتوحة. من هذا المنطلق، تتعاظم قيم التوثيق الأكاديمي وتتجلى صيغة المرجع الذي يربط الباحثين والطلاب والمفكرين بالعلوم والمصطلحات وبسير العلماء والأدباء والفلاسفة الذين أسهموا في بناء الحضارة العربية والإسلامية، بل الإنسانية أجمع.
وإذا كان الإعلان يندرج في سياق التحديث الثقافي، فإن أبعاده تتجاوز حدود الثقافة وحدود إمارة بعينها لتصير قيمة يتشاطرها المجتمع العربي ككل. فالموسوعة العربية الشاملة تمثل هوية ثقافية تعيد الأهمية للغة العربية بوصفها لغة العلم والفكر والتاريخ، وتؤسس لمسار معرفي يراكم أدوات التفكير والتحليل لدى الأجيال الشابة. بهذه الرؤية، تأتي الشارقة لتؤكد أن المعرفة ليست ترفاً بل مسؤولية، وأن الثقافة لا تزدهر إلا حين تكون محمية من النسيان عبر تأسيس مراجع علمية رصينة يمكن الاعتماد عليها في زمن تشكلت فيه مصادر عديدة وتبدلت أطرها المرجعية.
على هذا الأساس، تبرز الموسوعة كخطوة استراتيجية في زمن تتنازع فيه الأمم سردياتها. إذ بينما تكتب شعوب متقدمة تاريخها بأقلامها، ظل التاريخ العربي والإسلامي لعقود طويلة يُروى من منظور خارج حدود هذه الأرض. والحمد لله الذي يوفر اليوم مؤشراً يغير ذلك المسار؛ فهذه الشارقة تعلن صراحة أنه: الأمة التي لا تكتب معرفتها بيدها ستكتب عنها بما لا يليق بها. وتؤكد أن إحداث هذا التغيير ليس عملاً ثقافيّاً فحسب، بل إجراء يلامس الأمن المعرفي وإعادة توزيع أدوات الفهم والتحليل للأجيال القادمة في مواجهة تضخم المعلومات السطحية.
تتصل فلسفة المشروع ارتباطاً وثيقاً برِؤية الشارقة الثقافية كما يرسمها حاكمها العالم المثقف، حيث تُقاس قيمة المعرفة ليس بما تؤول إليه من رفاهة فكرية فحسب، بل بقدرتها على حماية الهوية وضمان استمراريتها من النسيان. وفي هذا الإطار، يعيد العمل على الموسوعة العربية الشاملة إلى اللغة العربية مكانتها في حقل العلم والفكر والتاريخ، ويفتح أمام الباحثين والطالبين باباً موثوقاً للانطلاق في دراسات مستقبلية تقوم على توثيق تاريخ العلوم والآداب والفنون والأعلام بمستوى من الدقة والمنهجية.
أما المحاور التي تتكون منها الموسوعة فتحمل أبعاداً مزدوجة: العلمية الأكاديمية التي تعرف العلوم والمصطلحات وتوثق سير العلماء والأدباء والفلاسفة الذين أسهموا في الحضارة العربية والإسلامية، والإرثية الثقافية التي تعيد الاعتبار للغة العربية وتضفي عليها هويتها كمرجع للمعرفة. إنها بنية معرفية تفتح قنوات جديدة للفهم وتعيد رسم خطوط التواصل بين الماضي والحاضر، بما يتيح للطلاب والباحثين من خارج العالم العربي الإلمام بالتراث العربي بأسلوب علمي رصين، وتوفير مساحة تفكير نقدي بعيداً عن الانتقائية والتزييف.
ولا شك في أن الإنجاز ليس مجرد جرداً للمعلومات، بل بناء وعي تاريخي ومعرفي ي challeng يواجه التحديات الرقمية، حيث تسهم الموسوعة في توطين المعرفة وتوفير أدوات فهم وتحليل للناشئة. من منظور استراتيجي، تتعدى هذه الرؤية دورها الثقافي لتدخل في إطار الأمن المعرفي الذي يسعى إلى حماية مصادر العلوم وتوثيقها على نحو يسمح باستمرار التقدم العلمي والبحثي دون أن يترك مجالاً للفساد المعلوماتي أو التخريب الفكري.
إن الموسوعة العربية الشاملة تمثل، في منظور أوسع، مشروع أمة يطول عمره ليخدم الحضارة بكل أبعادها. فهو لا يهدف إلى أن يكون مجرد مرجعية جامدة، بل إلى أن يتحول إلى أداة حية تشجع على التفكير، وتشجع على الإبداع، وتدفع باتجاه مشاركة معرفية فاعلة بين مختلف المجتمعات. فالكتاب، كما يرى القائمون عليه، ليس غاية في ذاته بل وسيلة لإحياء الأمة من جديد، ولإتاحة صوت عربي عقلاني يوثق لا يردد، ويفكر لا يقلد.
ومن ثم تصبح الموسوعة العربية الشاملة أكثر من مجرد مشروع ثقافي؛ إنها بمثابة جسر يربط بين تاريخ طويل من الإنجازات العلمية والفكرية وبين آفاق المستقبل. هذا الجسر، كما يرى منظمو المشروع، يحمل في طياته رسالة أعمق: أن العالم الآن بحاجة إلى صوت عربي مستقل يعيد صياغة صورة الأمة حضارةً وعلماً وثقافة. وبذلك تكون الموسوعة خطوة مهمة على طريق تعزيز مكانة اللغة العربية كلغة علم وفكر وتاريخ، وتأكيداً على أن التوثيق الأكاديمي الجاد هو الضمانة الحقيقية لبقاء المعرفة واستمرارها في مواجهة تغيّرات العصر.
وإذا كان الهدف الأساس من هذا المشروع هو حفظ الذاكرة العربية وتوثيق مسيرتها، فإنه أيضاً يفتح آفاقاً جديدة للبحث والنقد والتأمل، وهو ما يعزز الثقة في المنظومة التعليمية والثقافية الشارقة والإمارات عموماً كقوة فاعلة في تعزيز الأمن المعرفي. وفي ختام هذا التقديم، يمكن القول إن الموسوعة العربية الشاملة ليست مجرد عمل معلوماتي، بل هي مشروع أمة يسعى إلى إعادة صياغة صورتها الحضارية بأيديها، فالعالم يحتاج اليوم إلى صوت عربي يعقلن المعرفة ويوثقها، لا أن يرددها فحسب.
إطلاق الموسوعة كأول خطوة إصلاحية في بنية المعرفة
يشير الإعلان الرسمي إلى أن المرحلة الأولى من الموسوعة قد أُنجزت بنجاح، وهو ما يعزز من ثقة المجتمع الأكاديمي والجمهور العام في قدرتها على أن تكون مرجعاً جامعاً للعلوم والآداب والفنون والأعلام. كما أن توقيت الإعلان يحمل دلالات عميقة، إذ يزامن جملة من المتغيرات الرقمية والتحديات المعلوماتية التي تستدعي وجود بنية معرفية موثوقة تقف أمام موجات التضليل وتزوير الحقائق. فالموسوعة هنا لا تكون تجمعاً بارداً للمعلومات، بل مشروعاً يحث الباحثين على اعتماد معايير دقيقة في التوثيق والتصنيف، ويشجع الطلاب على التوسع في فضاء المعرفة بمساحات آمنة ومحددة بإطار علمي صارم.
الجذور التاريخية والهوية الثقافية في الشارقة
يربط الحديث عن الموسوعة بذكرى تأسيس أول مكتبة في الشارقة عام 1925، وهو ربط يبرز تموضع الإمارة كبوابة للمستقبل عبر الكتاب والثقافة. فالشارقة، كما يرد في النص، قد اختارت قديماً أن تجعل من القراءة جسراً نحو التنمية والهوية، وأن تعتزم اليوم توثيق مسار هذا الاختيار عبر مشروع معرفي شامل. وفي هذا السياق، تتجلى رسالة المدينة الثقافية في أنّ الحفاظ على اللغة والعلوم هو حماية للهوية الوطنية وتعبير عن الاعتداد بالحضارة العربية والإسلامية، وهو ما يعزز مكانة الشارقة كحاضنة للفكر النقدي والتوثيق الأكاديمي الجاد.
الأمن المعرفي كقيمة مفتاحية للمشروع
تتضح في هذا المحور علاقة الموسوعة بالأمن المعرفي، حيث يسعى العمل إلى توطين المعرفة وتقديم أدوات فهم وتحليل للأجيال القادمة. بمكوّنه الأكاديمي، يحرص المشروع على حماية المعرفة من تقلّبات العصر الرقمي، وتوفير مناخ يتيح للباحثين احترام معايير الدقة والموضوعية. وتبرز هنا فكرة أن التوثيق الأكاديمي لا يكتفي بإيراد أسماء وأحداث، بل يقدّم إطاراً فكرياً يتيح التحليل النقدي والتأمل العميق، وهو ما يعزز قدرة المجتمع على مواجهة التحديات المرتبطة بالمعلومات الزائفة والصخب الرقمي.
الفلسفة الثقافية للشارقة.. معرفة مسؤولة وخدمة المجتمع
تؤكد القصة أن الفلسفة الثقافية للشارقة تضع المعرفة في مصاف المسؤولية الوطنية، وأن الثقافة لا تزدهر إلا حين تُحمي من النسيان. بهذا المعنى، تصبح الموسوعة وثيقة هوية تُعيد تعريف اللغة العربية بوصفها لغة العلم والفكر والتاريخ، وتعيد إنتاج خطاب ثقافي يحترم التوثيق الأكاديمي ويرتكز إلى معايير علمية رصينة. كما أنها تعزز التفاهم الحضاري وتفتح أبواب الحوار العلمي بما يخدم البشرية جمعاء، لا سيما في زمن تزايد فيه الاعتماد على المعلومات السطحية والتفسيرات غير الدقيقة.
الموسوعة كمرجع للبحث والتأمل.. وصوت عربي عقلاني
من منظور عملي، تتحول الموسوعة إلى مرجع علمي موثوق يربط الماضي بالحاضر، مع لغة علمية رصينة وتوثيق أكاديمي لا يترك فجوات للمعلومات غير المؤكدة. إنها ليست مجرد كتاب يحفظ التراث، بل أداة تثقيف وتكوين فكر نقدي يساعد في صوغ أسئلة البحث وتحديد مسارات التعلّم. وفي هذا السياق، تبرز فكرة أن الكتاب ليس نهاية لغرض ثابت، بل وسيلة تشحن الجيل الجديد بالقدرة على التمييز بين الحقيقية والمضللة، وعلى التفكير الإبداعي المستند إلى أدلة ومواد موثوقة.
دلالة موسوعية الأمة على صعيد الهوية والتطور
يُنظر إلى هذا المشروع كأداة تؤدّي إلى صياغة صورة حضارية شاملة، تعيد للغة العربية موقعها في العلم والفكر والتاريخ وتؤمن للمجتمع العربي قدرة التأثير الإيجابي في المشهد العالمي. فهو يؤكد أن العالم يحتاج إلى صوت عربي عقلاني يوثق العمل الإنساني دون تكرار أو تقليد، ويشجع على التفكير المستقل وتحليل الظواهر العلمية والفكرية بإطارٍ نقدي يسهم في بناء حضارة مستدامة.
خلاصة المسار.. مشروع أمة لا مشروع إمارة فحسب
في خضم هذه الرؤية، نجد أن الموسوعة العربية الشاملة ليست مجرّد مشروع ثقافي يبحث عن سبق صحفي؛ وإنما هي مشروع أمة يسعى لإحياء صلتها بالمعرفة مضيفاً قيمة مضافة للإنسانية. يترسخ هذا الطرح في أن العالم الآن يحتاج إلى صوت عقلاني يوثق المعرفة ويعيد صياغتها من منظور عربي أصيل. وفي هذا المنظور، تبقى الشارقة أنموذجا للمدينة التي تُعلي من قيمة الكتاب وتُعيد تعريف دور الثقافة في التنمية والتفاعل مع العالم. فالموسوعة، كما يراها القائمون عليها، ليست غاية في ذاتها بل وسيلة لإحياء الأمة من جديد، وتأكيداً على أن المعرفة هي الركيزة الأساسية لمواجهة تحديات العصر والارتقاء بالإنسانية جمعاء.
يمكنك قراءة المزيد في المصدر.
لمزيد من التفاصيل اضغط هنا.














































































































