كتبت: بسنت الفرماوي
أكّد محمد الضويني، وكيل الأزهر، أن التعاون العلمي والتلاقي الفكري بين علماء الأمة فريضة دينية وضرورة مجتمعية لا بد من توافرهما لعرض جهود مؤسسات الأمة وتجاربها الثرية، وبخاصة المؤسسات العريقة التي ترتكز إلى عمق تاريخي واتساع جغرافي عظيمين، لتكون زاداً لغيرها من المؤسسات وتساهم في صد محاولات تشويه صورة هذا الدين السمح. جاءت هذه الإشارة في سياق حديثه خلال الندوة الدولية المشتركة بين الأزهر ووزارة الشؤون الإسلامية بالسعودية بعنوان «تجارب رائدة وآفاق مستقبلية في تعزيز قيم الاعتدال الوسطية»، التي أوضحت أن التعاون العلمي بين الأزهر الشريف ووزارة الشؤون الإسلامية في المملكة يعد ركيزة مهمة في توحيد الجهود لنشر رسالة الإسلام السمحة ومواجهة مخاطر الغلو والتطرف. وبين أن الله ميز هذا الدين الحنيف بالوسطية والاعتدال، فصارت الوسطية من أهم خصائص الأمة الإسلامية وصفاتها، وهي مطلب شرعي أصيل ومظهر حضاري رفيع، وتتجلى في مواقف كثيرة منها الاعتدال في الاعتقاد، وفهم مقاصد الشريعة بفهم صحيح، والالتزام بسلوك سوي ومعاملة حسنة حتى مع غير المسلمين. وشرح الدكتور الضويني أن الوسطية ليست مجرد صفة عارضة للإسلام، بل هي روح الإسلام التي تسري في مقاصده العامة وأحكامه التفصيلية، وتستمد أصولها من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ، وتُجسد جوهر هذا الدين الذي جاء ليخرج الناس من ظلمات الغلو والجمود إلى نور العدل والتوازن؛ فالإسلام دين وسط في جميع أحواله، بين التفريط والإفراط، وبين الغلو والتقصير، وبين التشدد والتساهل في العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات. وتابع أن الله جعل الأمة الإسلامية «أمة وسطاً» لتكون شاهدة على الناس، تجمع بين قوة الإيمان ورقة الرحمة، وبين التمسك بالأصول ومراعاة متغيرات الزمان والمكان؛ فليس الوسطية تفريطاً في الدين، بل فهم صحيح يزن الأمور ويضعها في نصابها الصحي، وبهذه الوسطية سادت الأمة الإسلامية العالم وأشرقت حضارتها في أرجائه.
الوسطية: ركيزة الدين وسمو الإسلام
أوضح الضويني أن مفهوم الوسطية ليس وصفاً طارئاً على الإسلام، بل هو روح الشريعة الإسلامية وجوهرها. وفي هذا الإطار تصبح الاعتدال في الاعتقاد والإيمان، وتنفيذ أوامر الشريعة بفهم مقاصدها والإلتزام بالسلوك القويم، من أبرز مظاهر الوسطية. كما أن الوسطية تعني اصطلاحاً harmonياً يجمع بين العقل والمنقول، ويؤدي إلى صورة من الدين تجمع بين الثقة في النصوص الشرعية وتدبير الواقع بما ينسجم مع متغيرات الحياة. إن هذه الرؤية تجعل الإسلام ديناً معتدلاً يعمل على رفع الظلم وتحييد التطرف، وهو ما يعزز قيم الأمن والسلام بين البشر. وفي هذا السياق تُبرز أهمية الوسطية كصفة أصيلة للأمة الإسلامية وتوجيهٍ عملي لكيفية تعاطيها مع التحديات المعاصرة حتى تبقى رسالة السماء رسالة رحمة وتوازن.
الأزهر كمرجعية للوسطية والاعتدال
ويؤكد الضويني أن الأزهر الشريف ظل عبر أكثر من ألف عام منارة للعلم والعلماء، ووجهة للطلاب من أرجاء العالم، وقاعدة معرفية تقف على أعتاب الوسطية المعتدلة التي لا تعرف الغلو ولا الشطط. فقد تمسك الأزهر بمنهج فريد في فهم القرآن والسنة، وأرسى مناهج توازن بين النقل والعقل، ورسخ في عقول طلابه قيم العدل والرحمة والتسامح، وشارك في تأهيل دعاة يحملون رسالة الإسلام السمحة إلى الإنسانية. كما أشار إلى أن الأزهر يعزز منطق التعاون الدولي، ويسعى إلى بناء علاقات قائمة على الاحترام المتبادل والقيم الإنسانية المشتركة. هذه الصورة تبرز الأزهر كمرجعية راسخة للوسطية والاعتدال في الفكر الديني، وتؤكد دوره كقوة مؤثرة في تشكيل الرؤية الإسلامية المعاصرة.
التعاون العلمي والشراكات الدولية
يؤكد الحديث أيضاً أن التواصل العلمي بين الأزهر الشريف ووزارة الشؤون الإسلامية في المملكة العربية السعودية يشكل ركيزة مهمة لتوحيد الجهود ونشر رسالة الإسلام السمحة ومواجهة مخاطر الغلو والتطرف. وتعد هذه الشراكات جزءاً من مسار أوسع يسعى إلى توفير بيئة تعليمية وتوعوية تتسع لمختلف الثقافات وتحتضن التعددية في إطار من الاحترام والتعاون. وفي الوقت نفسه، يسعى الأزهر من خلال هذه اللقاءات إلى تعزيز آليات الحوار والتفاهم المشترك مع قادة الدينيين والسياسيين حول قضايا التعايش والمواطنة والقيم الإنسانية المشتركة. وهذا المسار يعزز من قدرة المؤسسات الدينية على مواجهة خطاب الكراهية والتعصب، ويؤكد ضرورة استمرار الجهود المشتركة بين الدول الإسلامية وأشقائها من العالم للتصدي للتطرف بكل أشكاله.
التعارف والأخوة الإنسانية في خطابات الأزهر
ويتوالى التأكيد على أهمية منهج «التعارف» الذي دعا إليه القرآن الكريم باحترام الإنسان أياً كان دينه أو ثقافته أو اعتقاده، في إطار من الحوار والتفاهم المشترك. وقد تجلّى ذلك في مبادرات الأزهر مثل الزمالة الإنسانية عام ألف وتسعمئة وستة وثلاثين، وفي مبادرة الأخوة الإنسانية عام ألفين وتسعة عشر، حيث جرى التأكيد على قيم السلام والتعايش والمواطنة ونبذ الكراهية والتعصب. هذه المواقف تعكس التزام الأزهر بقيم إنسانية عالمية وتوجهه إلى بناء جسور تفاهم حقيقية بين الشعوب، وفق نهج متزن يحترم التنوع ويرفض الإقصاء.
التحديات الحالية والرسالة الوسطية في مواجهةها
وعلى الرغم من هذه القيم النبيلة التي جاءت بها رسالات السماء، يلفت الضويني الانتباه إلى أن العالم ما يزال يشهد توترات غير مبررة، سواء من خلال اعتداءات مباشرة من دول على دول، أو من كيانات مجرمة تستهدف دول آمنة، أو عبر تدخلات غير مباشرة في شؤون أخرى، إضافة إلى سلب حقوق الشعوب بوسائل متعددة. ويرجع السبب في ذلك، وفق قراءته، إلى غياب الفهم الصحيح لتعاليم الأديان السماوية التي تدعو إلى إعمار الأرض لا إفسادها. من هذا المنطلق، أصبح من الضروري أن تبذل المؤسسات الدينية جهداً مكثفاً لنشر الفكر الوسطي ومواجهة خطاب التطرف والكراهية، كما أن الأزهر قد تبنّى منذ وقت مبكر خطورة هذا الخطاب وأسهم في جعله من أولويات العمل الديني وتوجيه المجتمع نحو مقاصد الدين الحنيف.
آفاق تعزيز الوسطية في الفكر الديني المعاصر
في سياق تعزيز الوسطية كمنهج حي، يبرز دور الأزهر في وضع أسس تسمح بموازنة الفكر الديني مع متغيرات العصر، عبر تعزيز القدرة على الحوار مع الآخر واحترام التعددية وفتح أبواب التفاهم مع غير المسلمين. وتؤكد هذه الرؤية أن الوسطية ليست تجاهلاً للحقائق الدينية، بل سعي مستمر لإيضاح المعاني الصحيحة للنصوص الشرعية وتطبيقها في الحياة اليومية على نحو ينسجم مع قيم العدالة والرحمة والتسامح. كما أن الأزهر يحافظ في مواقفه على التوجيهات التي تجمع بين العقل والنقل، وتؤكد أن حماية الإنسان وكرامته هي محور رئيسي في الدعوة الإسلامية، وأن العمل المشترك يفتح آفاقاً جديدة للفكر الإسلامي الذي يخدم الإنسانية جمعاء.
آفاق المستقبل: تعزيز الوسطية كمسار عالمي
ويظل الأزهر في مقدمة الجهود الرامية إلى تعزيز الوسطية باعتبارها مساراً عالمياً يلتزم بقيم الحوار والتعايش ونبذ التعصب. فالمجتمع الدولي اليوم يحتاج إلى رسائل تتبنى الاعتدال وتشيع قيم العدل والرحمة في إطار من الاحترام المتبادل والمواطنة الكونية. وهذا ما يعكسه تركيز الأزهر على بناء جسور تواصل مع مؤسسات دينية وحكومات وشعوب في مختلف القارات، وتقديم نموذج عملي يدمج بين التراث والحداثة في قراءة متوازنة للنصوص الدينية وتطبيقاتها. هكذا تظل الوسطية ركنًا ثابتاً في الرؤية الإسلامية، وتبقى منارة الأزهر تسترشد بها في مواجهة التحديات المعاصرة وتوجيه المجتمع إلى مسار يتسق مع مبادئ السلام والإصلاح والإنصاف.
يمكنك قراءة المزيد في المصدر.
لمزيد من التفاصيل اضغط هنا.















































































































