كتب: أحمد عبد السلام
ليس واشنطن اليوم مدينة هادئة كما تبدو في صورها الليلية. إنها بركان تحت الرماد، حيث تتحول كل بطاقة اقتراع إلى غرفة عمليات تُدار فيها معارك النفوذ على مستوى الكوكب. في هذا السياق، يبرز مصطلحٌ مركزي يلتقط جوهر ما يجري: زلزال واشنطن السياسي. فهو ليس مجرد سباق انتخابي، بل معركة وجود بين رؤيتين للعالم. من جهة، نظام دولي يترنح، ومن جهة ثانية قوى صاعدة تنتظر اللحظة المناسبة لملء فراغه. منذ أواخر الحقبة الباردة وحتى اليوم، لم يعرف العالم لحظة ترقّب مثل الآنية التي يعيشها الآن. فكل دولة تقريبا، من بكين إلى موسكو، ومن طهران إلى القاهرة، تتابع النتائج كأنها معنية بها بشكل شخصي. لأن السؤال لم يعد: من يفوز؟ بل: أي عالمٍ سيتشكّل بعد فوز أحد الطرفين؟
الولايات المتحدة لم تعد مركز القرار فقط، بل صارت قلب العاصفة التي تحدد اتجاه الرياح السياسية على امتداد القارات. عودة دونالد ترامب إلى المشهد الانتخابي قلبت الموازين تماماً. الرجل الذي هزّ المؤسسة الأمريكية من الداخل يَعِد من جديد بما يسميه “أمريكا أولاً”، وهي الجملة التي تقرأها عواصم كثيرة كإشارة إلى إعادة ترتيب الأولويات في عالم يواجه تحديات مركّبة. أما خصومه في الحزب الديمقراطي، فيرفعون شعاراً يمكن وصفه بأنه ناعم ولكنه مفعم بالعجز أمام واقع دولي تغيّر أكثر مما تتحمّله المؤسسات الأمريكية التقليدية. خلف ستار الانتخابات، تدور معركة أعمق: من يمنح القرار الأمريكي فعلاً؟ هل هي المؤسسات العسكرية والاستخباراتية؟ أم شركات السلاح والطاقة التي تموّل الحملات وتحرّك السياسات؟ أم الإعلام الذي يصنع الرأي العام، فيسقط رؤساء ويرفع آخرين بحسب ما يخدم مصالحه؟
هذه الانتخابات كشفت أن الديمقراطية الأمريكية، التي طالما قدمت نفسها كنموذج، لم تعد مجرد آلية داخل صندوق اقتراع بل واجهة لصراع مصالح يتقاطع داخلياً ويقع خارجياً. العالم العربي ينظر إلى هذا المشهد بعين أكثر واقعية من أي وقت مضى. فقد تعلم أن لا يجوز الرهان على الإدارات وحدها، بل على استقراره الذاتي. من مصر إلى الخليج، لم تعد العواصم تنتظر إشارة من البيت الأبيض للتحرّك. القاهرة وحدها أضحت تكتب معادلتها الخاصة في ملفات الإقليم: غزة وليبيا والبحر الأحمر وكل ما يربطها بمصالح الاستقرار الإقليمي. وهذا التحول هو ما يقلق مراكز القرار في واشنطن أكثر من أي شيء آخر: أن الشرق الأوسط بدأ يتعلم أن يقول لا بلغة واثقة. أما أوروبا فترقب المشهد بارتباك واضح: القارة العجوز فقدت بوصلةً بين ولاء قديم لواشنطن وحاجة ملحة لاستقلال القرار بعد تجارب الحرب الأوكرانية. في بروكسل، تُقرأ نتائج الانتخابات الأمريكية كأنها تقرير مصير: هل ستبقى أوروبا ظلّاً للولايات المتحدة أم ستبحث عن أمنها بعيداً عن الهيمنة الأطلسية؟
زلزال واشنطن السياسي: أثره في المشهد الأمريكي والعالمي
في آسيا تراقب الصين بهدوء من خلف جدارها، وتراهن روسيا على أن الفوضى داخل الولايات المتحدة قد تكون خياراً يخدم استراتيجيتها الطويلة الأجل. الكل يدرك أن ما يجري في واشنطن ليس حدثاً محصوراً داخل الحدود الأمريكية، بل هو إعادة توزيع للسلطة على مستوى العالم. الاقتصاد الدولي، وأسواق الطاقة، وخريطة التحالفات، وحتى تقاطعات الحروب بالوكالة، جميعها تفتش عن ملامح جديدة لما سيؤول إليه المشهد العالمي. في هذه الصورة، يصبح السؤال المركزي: هل ما زالت واشنطن قادرة على قيادة العالم وهي غارقة في انقسامها الداخلي؟ وهل تستطيع ديمقراطية تبدو مشوّهة بالحروب الإعلامية والمصالح المالية أن تلهم الآخرين كما كانت في فترات سابقة؟
موقع واشنطن من عالم يتسع بالتوترات
على مستوى الشرق الأوسط، تتبدى قراءة القاهرة وخبرة العالم العربي في تأويل التحولات الكبرى. لم تعد العواصم تنتظر إشارات من البيت الأبيض كي تتحرك، بل باتت تقرأ مشاهد التحول بروابط المصالح وليس فقط بالتصريحات السياسية. في غزة وليبيا والبحر الأحمر، ثمة ملفات تتطلب قراءة أكثر حذرًا وأكثر جدوى من مجرد التمنّي بتجديد التحالفات التقليدية. هذا الواقع يجعل الأوروبيين يراجعون سلوكهم: هل سيظلون في ظل الهيمنة الأطلسية أم سيرون في أمنهم القومي ممرّاً يستطيعون فيه اتخاذ قرارات مستقلة؟ أما في آسيا، فالصين تراقب وتخطط، فيما روسيا قد تختار الأوقات التي تجدها مناسبة لاستثمار حالة الاضطراب داخل الولايات المتحدة.
تغير دور الدول الكبرى أمام الانتخابات الأمريكية
تزداد شراسة معركة تحديد مستقبل النظام الدولي. أوروبا تواجه خياراً صعباً بين الحفاظ على علاقة قديمة مع واشنطن وبين بناء خطوط أمنية جديدة تتيح لها مرونة اقتصادية وسياسية أكبر. في الوقت نفسه، تتابع الصين خطواتها بثقة، وتنظر إلى واشنطن كقائد سابق في نظام عالمي يتراجع تدريجياً لصالح تعددية أقوى. روسيا تستثمر في أن الفوضى الأمريكية قد تخدم استراتيجياتها المدى الطويلة، مع استمرارها في لعب أدوار على أكثر من جبهة. وبعيداً عن خطوط الطول والعرض، يبقى السؤال عالقاً: كيف ستعيد الانتخابات الأمريكية تشكيل شبكة التحالفات والخصومات التي تشكل خريطة القوى العالمية؟
منظور الشرق الأوسط في هذا التحول العالمي
مصر، بوصفها حضانة تاريخية للتقارب والتباعد في العلاقات الدولية، تقرأ التطورات من زاوية المصالح والحدود، لا من منطلق أسماء المرشحين فقط. تعرف أن التغيير في واشنطن لا يقاس بالوجوه، بل بالتحولات في بنية النظام الدولي. العالم العربي يرى في هذه اللحظة أن القوة ليست محصورة في امتلاك الأسلحة أو في القدرة الاقتصادية وحدها، بل في امتلاك الرؤية التنظيمية السيادية التي تسمح باتخاذ قرارات جريئة عندما تبرز الحاجة إليها. وهذا ما يجعل القاهرة تكتب معادلاتها الخاصة في مجمل ملفات الإقليم، من ملف غزة إلى الملف الليبي، مروراً بمسألة التواجد في البحر الأحمر والحدود البحرية، وكل ذلك في إطار تبني مصالح الاستقرار الذي تعيشه المنطقة.
توازن القوى ووجهة النظام العالمي القادم
في نهاية المطاف، تتحول الرسالة من كونها نقاشاً حول فوز مرشح إلى نقاش حول شكل النظام العالمي القادم. يعيد التاريخ نفسه بمسارات جديدة: القوة لم تعد محكومة فقط بما تملكه من سلاح، بل بما تملكه من رؤية وتنسيق مع شركاء يخدمون مصالحها المشتركة. العالم أمام لحظة مفصلية: هل ستظل واشنطن تقود التحالفات الدولية وتحدد أطرها؟ أم أن نُدلاً جديدة في الساحة الدولية ستحجز لها مكاناً في قيادة النظام العالمي عبر مقاربات أكثر توازناً وتنوعاً؟ ما يخرج من هذا الزلزال السياسي هو درسٌ قاسٍ: أن القيادة العالمية ليست حكراً على جهة بعينها، وأن العالم قد يبدأ في كتابة فصول جديدة من تاريخه بعيداً عن مركز الثقل الواحد.
أخيراً، يبقى السؤال الحاضر دوماً: هل ما زالت واشنطن تتحكم بمجرى العالم؟ أم أن الواقع الدولي يتجه إلى مسار جديد تُكتب فصوله خارج حدود البيت الأبيض؟ الإجابة ليست بسيطة، لكنها ستظهر تدريجياً مع صعود وتراجع القوى وتالياً مع تغيّر أنماط السياسة والاقتصاد والاعتماد على شبكة من المصالح المشتركة تتخطى الحدود الوطنية.
يمكنك قراءة المزيد في المصدر.
لمزيد من التفاصيل اضغط هنا.














































































































