كتب: كريم همام
استعرضت الدكتورة عبلة الألفي، نائب وزير الصحة والسكان، تجربة مصر في تحويل ملف السكان من التركيز على العدد إلى تحسين الخصائص السكانية، عبر اعتماد نهج علمي يقوم على تعزيز دور المؤشرات السكانية المركبة في رسم خريطة التنمية البشرية على مستوى محافظات الجمهورية. جاء ذلك خلال مشاركتها في منتدى البرلمانيين الأوروبي (ICFP Parliamentarians Forum)، المنعقد على هامش فعاليات المؤتمر الدولي لتنظيم الأسرة 2025 بمدينة كولومبيا. أكدت أن الإجراءات والسياسات التي اعتمدتها الدولة لضبط النمو السكاني وخفض معدل الإنجاب الكلي أثمرت عن انخفاض ملحوظ في المعدل، وأن هذا الانخفاض تحقق بمعدل أسرع من التقديرات السابقة، ما يعكس نجاح السياسات السكانية في تحقيق أهدافها قبل الموعد المخطط بثلاث سنوات. كما أشارت إلى أن الخطة العاجلة للسكان والتنمية (2025-2027) أسهمت في رفع وعي الأمهات بفترات المباعدة بين الولادات، حيث أظهر مسح حديث أن 82% من السيدات يفضّلن المباعدة بين الولادتين من 3 إلى 5 سنوات، مقابل 55% فقط في مسح الأسرة المصرية لعام 2021، وهو ما يمثّل مكسباً قوياً في وعي الأسرة المصرية بالصحة الإنجابية.
المسار الاستراتيجي للمبادرة المصرية في التنمية البشرية والسكان
وقد تم التأكيد على أن التحول في ملف السكان يقوم على إطار مؤسساتي يعتمد مؤشرات سكانية مركبة، وليس مقاربة عددية بحتة فحسب. هذه المنهجية تتيح رسم خريطة التنمية البشرية على مستوى المحافظات وتحديد الفجوات بدقة لمعالجة التفاوتات التنموية. وفي سياق ذلك، تُبرز التجربة المصرية كيف أن ربط السياسات السكانية بمؤشرات التنمية يفتح مساراً لإعداد خطط محلية أكثر تجاوباً مع الواقع الفعلي للمجتمعات. وتكمن النقاشات في تعزيز الاستفادة من البيانات والمؤشرات لتوجيه الموارد وتقييم أثر التدخلات بشكل مستمر. كما أكدت الدكتورة الألفي أن هذا التوجه يعزز الشفافية ويتيح متابعة دقيقة لمستوى التقدم في كل محافظة وقرية، بما ينسجم مع هدف التنمية المستدامة الشاملة.
الخطة العاجلة 2025-2027 وأثرها على وعي المجتمع
ركزت الخطة العاجلة للسكان والتنمية (2025-2027) على تمكين المجتمع من إدراك أهمية فترات المباعدة بين الولادات كإجراء صحي واجتماعي ينعكس إيجاباً على صحة الأم والطفل والتنمية البشرية. وقد رُصد خلال أحد المسوح الأخيرة ارتفاعاً ملحوظاً في مستوى الوعي لدى الأمهات حول أهمية تنظيم الأسرة وفترات الحمل المتباعدة. ويشير التقرير إلى أن هذه المبادرات ليست مجرد توصيات نظرية، بل هي إجراءات عملية تقودها أجهزة الدولة وتتمثل في تعزيز الخدمات والرعاية الصحية وتوفير وسائل تنظيم الأسرة. وتضمن المسح أن نسبة الوعي ارتفعت إلى 82% في فئة السيدات اللاتي يرين أن المباعدة بين الولادات من 3 إلى 5 سنوات خيار مناسب، وهو فرق واضح عما كان عليه الحال في عام 2021، حيث كانت النسبة 55%. وهذا التحول يعكس نجاحاً عملياً للجهود التوعوية والتثقيفية التي تبنتها الخطة وتُدار بشكل مستمر وتتوسع تدريجياً ليشمل شرائح واسعة من المجتمع.
المناطق الحمراء والمناطق الصفراء كإطار للتنمية المستهدفة
وتركز الخطة العاجلة على “المناطق الحمراء” التي تعرف بأنها المناطق ذات المؤشرات السكانية المركبة الأقل من 50%، وتضم 73 منطقة يعيش بها نحو ربع سكان البلاد. الهدف هنا هو تركيز الجهود التنموية والموارد على هذه المناطق حتى نهاية عام 2027، وفي الوقت نفسه تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للسكان والتنمية على مستوى الجمهورية لتحقيق النتائج المرجوة. وقد أظهرت الجهود الميدانية أن العمل في هذه المناطق يتطلب تحريكاً ميدانياً فعالاً ووجود آليات قابلة للقياس والمتابعة الدقيقة للمؤشرات. ومن بين النتائج المبشرة أن 31 منطقة حمراء تحولت حتى الآن إلى مناطق صفراء، حيث تتراوح المؤشرات السكانية في هذه المناطق بين 50% و70%. هذه التغييرات تدل على إمكانية تعميم التجربة وتوسيع نطاقها لتشمل مناطق أخرى وتوفير فرص تنموية أوسع للسكان. كما يبرز ذلك أهمية تعزيز الحوكمة وتنسيق الجهود عبر المجلس القومي للسكان، وتحديث آليات المتابعة باستخدام أدوات رقمية لرصد التغيرات في المؤشرات وتقييم أثر التدخلات.
تعزيز الرعاية الصحية والحوكمة الرقمية واللامركزية
تضمن المحاور الأساسية للخطة زيادة الاعتماد على اللامركزية المطلقة لتشجيع الجهات المعنية على التحرك الميداني الفعّال في الميدان. كما تتضمن تحسين خدمات الرعاية الصحية الأولية في المحافظات المختلفة، مع إعادة هيكلة المجلس القومي للسكان لتعزيز دوره في التنسيق وتوحيد الجهود بين مختلف المؤسسات المعنية. وتؤكد الخطة على حوكمة الملف السكاني من خلال التحول الرقمي والمتابعة الدقيقة للمؤشرات، وهو ما يسهم في رصد التغيرات والتدخلات بشكل أسرع وأكثر دقة، مما يعزز من كفاءة الاستجابة للمتغيرات السكانية وتوجيه الموارد بشكل أكثر فاعلية. وتُشير النتائج حتى الآن إلى أن هذه الآليات نجحت في تحويل مناطق وتحسين مؤشرات أدائها، ما يعزز الثقة في إمكانية الوصول إلى أهداف التنمية المستدامة من خلال سياسات سكانية أكثر فاعلية وتكاملًا مع القطاع الصحي.
تحسين التعليم وتمكين المرأة ومكافحة زواج الأطفال والتسرب من التعليم
ولم تغفل الخطة أهمية النهوض بمستوى تعليم المرأة والتمكين الاقتصادي والاجتماعي لها. فقد أشارت الألفي إلى أن تعزيز تعليم المرأة وتوفير فرص العمل لها يسهّلان تحسين الخصائص السكانية ويقللان من مخاطر الزواج المبكر وتراجع نسب التسرب من التعليم. كما تتضمن الحزمة المعروضة وسائل تنظيم الأسرة وتوفيرها بشكل متكامل تحت شعار “لا للفرص الضائعة”، بهدف تلبية الاحتياجات غير الملباة للوسائل وتنظيم الأسرة بشكل ينسجم مع الواقع المجتمعي. وتؤكد هذه المحاور أن النتائج ليست مقتصرة على الجانب الصحي فقط، بل تتعلق بتحسين القدرة الاقتصادية والاجتماعية للنساء وتهيئة بيئة أسرية أكثر استقراراً وصحة. ولعل هذا الربط بين التعليم والتمكين الاقتصادي والصحة الإنجابية هو ما يمنح السياسات السكانية قدرة على صنع قفزات نوعية خلال فترة زمنية وجيزة وضمن إطار رؤية تنموية شاملة.
أثر التجربة وآفاق التوسع في التنفيذ
أظهرت نتائج تنفيذ الخطة منذ إطلاقها مطلع العام الجاري تقدماً ملحوظاً في مناطق محددة وإمكان توسيع نطاق التجربة. وبدلاً من الاقتصار على النتائج في منطقة بعينها، تشير المعطيات إلى زيادة في عدد المناطق التي تشهد تحولات من red إلى yellow، وهو ما يكسب عملية التوسع قدرة على البناء على أسس مثبتة وتكرار النجاح في مناطق جديدة. كما أن التركيز على المناطق الحمراء وتغيير وعي الأسر والمجتمع يعزز من قبول السياسات السكانية ويزيد من فعالية التنفيذ على المستوى القومي. وتؤكد الدكتورة الألفي أن هذا النموذج يمثل دليلاً عملياً على قدرة السياسات السكانية في إحداث تحولات إيجابية في وقت قياسي، بما يساهم في تحقيق التنمية المستدامة الشاملة عبر ربط النمو السكاني بالصحة العامة والتعليم والاقتصاد والمساواة بين الجنسين.
التوجه المستقبلي والاستعداد للتوسع الإقليمي
مع الاستمرار في متابعة نتائج المناطق المحسوبة، تستعد الجهات المعنية لموسم جديد من التدخلات التي تستهدف تعزيز الخصائص السكانية لمختلف المحافظات وفق أسس علمية موثوقة وتعزيز آليات التقييم والمتابعة. وسيظل التركيز على توسيع نطاق الخطة العاجلة بما ينسجم مع التطورات السكانية والتحديات الصحية والاقتصادية في البلاد، مع التأكيد على أن النمو السكاني ليس غاية بحد ذاته، بل أداة يتم توظيفها لصالح التنمية البشرية وتحسين جودة حياة المواطنين عبر ركيزتين رئيسيتين: الاستدامة والتوازن بين الموارد والطلب والخدمات المقدمة للمجتمعات المختلفة.
تظل التجربة المصرية، كما رصدتها هذه الارتكازات، نموذجاً عملياً يبيّن كيفية تحويل الرؤى السياسية إلى سياسات ميدانية قابلة للقياس والتقييم، وتؤكد أن الدمج بين التخطيط العلمي والتنفيذ الميداني والحوكمة الرقمية يمكن أن يحقق نتائج ملموسة في نطاق زمني وجيزة. وإلى حين استقرار النتائج وتعميمها بشكل أوسع، تظل هذه الخطة دليلاً عملياً على أن التركيز على الخصائص السكانية وقدرات المجتمع قد يصبح أحد المحركات الأساسية للتنمية المستدامة في مصر.
المصدر الأساسي في الحوار هو عرض التجربة وتفاصيل الخطة العاجلة التي تقودها وزارة الصحة والسكان والتعاون مع الشركاء الوطنيين لمعالجة التحديات السكانية وتحقيق أهداف التنمية المستدامة على مستوى الجمهورية.
يمكنك قراءة المزيد في المصدر.
لمزيد من التفاصيل اضغط هنا.











































































































